العسل في التاريخ وفي الديانات وفي الطب الشعبي
عرف الأنسان الأول العسل منذ نشأته على وجه هذه الأرض عندما كان لا يزال يسكن في الكهوف والمغاور. وكل حكاياته الشعبية وأغانيه ورقصاته وفولكلوره تعبر أكبر تعبير عن تعرفه الى العسل وحبه له كألذ غذاء وكدواء. وبقي العسل النقي الذي يجمعه النحل من رحيق الأزهار ومن الأشجار، الحلو الوحيد المعروف لتحلية البشر، علما أن الفينيقيين والعبرانيين والفراعنة والرومان والأغريق والأشوريين كانوا يستخدمونه في قرابينهم المفضلة من الهتهم ويستعملونه في كل طقوسهم الدينية.
ولقد أتت التوراة مرات عديدة على ذكر فلسطين كبلاد اللبن والعسل, لكثرة ما كان فيها من طوائف النحل البرية المملوكة وغير المملوكة بسبب مناخها المؤاتي ووفرة أزهارها الرحيقية المنوعة.
أما الفراعنة فكانوا يحنطون ملوكهم بالعسل كما كانوا يضعون بالقرب منهم جرارا من فخار مليئة باطيب الأعسال. وقد اشتهر المصريون واليونانيون بتحميل طوائف النحل في مراكبهم لينقلوها من مصب النهر الى منبعه تدرجا وراء مواسم الزهر كلما تفتحت في منطقة وذبلت في أخرى.
ومن المعروف أيضا أن معظم الشعوب القديمة كانت تؤمن بالخلود وبأن العسل هو الوسيلة الفضلى للبقاء على قيد الحياة ولذلك كانوا يكثرون من جمعه وأكله. ولأن الطقوس الدينية كانت مسيطرة على حياتهم اليومية، فقد استعملوا العسل في كل مهرجاناتهم الدينية وحتى في أهازيجهم من المهد الى اللحد نظرا لاعتبارهم العسل كرمز للنقاء والطهارة الروحية.
وهكذا بقي العسل على رأس قائمة الهدايا التي يقدمها العريس الى عروسه وكلما كانت الكمية كبيرة كلما كان ذلك دليلا على ثبات هذا الزواج ودوام حب العريس لعروسه لسنين طويلة قد تمتد الى العمر كله.
وفيما كان البراهمة يمسحون شفتي العروس وأذنيها بالعسل لأبعاد التعاسة وجلب الحظ والسعادة لحياتها الزوجية، كانت شعوب الشرق الأقصى تهتم بخصوبة العروس أكثر من الأهتمام بالحظ ولذلك كانوا يدلكون ثدييها بالعسل كي تنجب ما يحلو لها من البنين. ولا يزال المثل الأيطالي دارجا الى اليوم: يكفي أن تقدم العروس لزوجها العسل حتى تحكمه كل حياتها.
ويعتبر كثير من الشعوب أن العسل روح الجسم, وكان المرحوم فؤاد رزق نقيب المحامين السابق، يعتبر أن من يأكل العسل يتحد بالحياة، ولهذا كان طعامه الرئيس أو غذاؤه اليومي والباقي نوافل. أما في المغرب فكانوا يعتقدون أن العسل يثير الحب ويقوي القدرة الجنسية ولذلك كانوا يتناولونه بكثرة في حفلات الزفاف كشراب محلى بالعسل ونبيذ مصنوع من العسل وحلويات منوعة أساسها العسل.
أما العبرانيون فكانوا يؤمنون بقدرة العسل على جعل من يتناوله في منتهى الذكاء والمهارة ولذلك كان انبياؤهم يوصون بأكله. في سفر التكوين مثلا جاء ذكر العسل عندما أرسل يعقوب أبنه بنيامين الى مصر مع هدايا من العسل ومن أطيب فاكهة الأرض. كما جاء في وصية سليمان بن داود الى أولاده " تناول العسل يا بني فأنه جيد ، وأن اقراص العسل لذيذة المذاق ".
وكان اليونانيون يعتقدون جازمين أن العسل يطيل العمر ويجدد الخلايا. ولذلك كان فلاسفتهم يكثرون من أكل العسل في غذائهم اليومي الى درجة انهم جعلوه الصحن الرئيس، في حين كان مصارعوهم يأكلون الكثير منه قبل البدء بالمصارعة.
وتعرف الأساطير اليونانية العسل على انه " الندى الذي تقطره نجوم السماء مع قوس قزح وينحدر ألينا بواسطة الأزهار " وعندما كانوا يريدون أن يطلبوا من آلهتهم طلبا صعبا وهم بأمس الحاجة أليه، كانوا يقدموا لها طبقا مليئا بأطيب الأعسال مع رغيف خبز وكأس ماء .
أما نساء أسبرطة فكانت تضع هدايا من العسل في الشخاريب والكهوف والمغاور التي تسكنها الأرواح الشريرة استرضاء لها وأتقاء لشرها. كما أنها كانت تضع موائد عارمة بكل ما لذ وطاب وفي مقدمتها العسل وتترك الباب مفتوحا كي تتمكن الأرواح الشريرة من الدخول فتفرح بهذا التكريم وتعفي عن مولودها الجديد.
أما عند الرومان فقد بلغت قيمة العسل درجة من القوة أنه صار يقبل كبديل عن المال لدفع الجزية المتوجبة على الشعوب التي استعمروها. وفي أيامهم صار ينظر الى تربية النحل كعمل لا يمارسه الا الأشراف والنبلاء ويفاخرون به على اقرانهم. وأذ استعملوا العسل لتكريم ضيوفهم الأكثر قيمة، استعملوا كذلك نحلهم لأطلاقه على أعدائهم في معاركهم الحربية عندما كان يبلي بلاء حسنا في القرص واللسع. أما في عهد نيرون عهد الفسق والفجور فما أحسن من العسل لتجديد القدرة الجنسية لدرجة انه استعمل في كل الأطعمة حتى في الدجاج والطيور وغيرها من المعجنات.
وأذ نصل الى المسلمين، فأذا العسل يتحول الى مادة خالصة النقاوة والطيب والمنافع الصيدلانية ويصبح له مكانة مقدسة في "سورة النحل وأوحى ربك الى النحل ". وقد جعل القران من العسل طعام أهل الجنة عندما نزلت الأية 15 من سورة محمد صلى الله عليه وسلم: " مثل الجنة التي وعد بها المتقون، فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم ".
ولا بد هنا من التنويه بأن نبي المسلمين كان يدعو دائما للتداوي بالعسل، وقصة :" صدق الله وكذب بطن أخيك"أشهر من أن تعرف. وقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يحب الحلواء المصنوعة من الحليب والتمر والعسل. وفي حديث آخر أن العسل كان أحب الشراب الى رسول الله يشربه ممزوجا بالماء على الريق.
وعندما أثنى النبي على بلال نعته بأنه:" مثل بلال مثل النحلة، غدت تأكل الحلو والمر، ثم هو حلو كله" فلا نملك ألا سجدة شكر للمنعم الكبير واهب النعم الذي جعل في شراب النحل شفاء لكل داء، والصلاة والسلام على خير الخلق محمد القائل: “تداووا أيها الناس، فأن الذي أنزل الداء أنزل الدواء". وقد شبه النبي المؤمن بالنحلة " تأكل طيبا وتصنع طيبا، وقعت فلم تكسرولم تفسد ".
وفي السنة المطهرة ورد: عليكم بالشفائين: العسل والقرآن " سورة النحل – الأية 69 " فجمع بين الطب البشري والطب الألهي وبين طب الأبدان وطب الأرواح وبين الدواء الأرضي والدواء السماوي.
وعلى لسان أبي هريرة : " من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء . "
فالعسل كان ولا يزال وسيبقى الى الأبد من أجود أنواع الأدوية أن لم يكن أجودها أطلاقا لما له من تأثير مفيد على كل العلل فهو يدفع الفضلات المجتمعة في المعدة ، المتراكمة في الأمعاء ، وفيه جلاء وتليين ، وهو سهل الهضم لأنه مهضوم مسبقا في جسم النحلة ولذلك لا يعوزه هضم وهو سريع التمثيل يصفه الأطباء لمرضى القلب وللناقهين ، لعدم تأخره في المعدة بحيث لا تعود تضغط على القلب فتتعبه . كما أنه يفيد الأطفال والشيوخ لما يحتوي من أنزيمات ، فهو منشط للدورة الدموية ، مولد للطاقة ومنشط للكبد . ويتميز الى جانب ذلك بعطور منوعة تتوالى في حلق الآكل وأنفه عطرا بعد عطر ومذاقا بعد مذاق جمعها النحل من خلاصة رحيق مئات الأنواع من الأزهار البرية التي يتكون منها العسل ووضعناها لك في قمقم مسحور حذار كلما فتحته ملأت الغرفة شذى و طيبا .
ويحتوي العسل على فركتوز ولفيلوز بنسبة 80 % ، وبه أيضا أملاح وفيتامينات ومواد غير معروفة بمعدل 5% من تركيبه فضلا عن الحامض النملي كما يحتوي على 3% بروتايين و5% معادن . ومن صفات العسل التي يتميز بها عن غيره أنه لا يتسبب بتلف الأسنان كباقي المواد السكرية بل أنه يعالج لثة الأطفال وقت التسنن ، كما أنه يحمي من النزلات البردية أذا شرب مع عصير الليمون ويشفي كثيرا من أمراض العيون مثل ألتهابات القرنية ، وبما أنه مضاد للتعفن ، فهو يجعل البشرة ملساء ناعمة كالحرير وقد عولجت الدمامل والقروح وحتى الخراجات بالعسل فشفيت . وقد أوصى مؤلف القانون ، الرئيس أبن سينا باستعمال لبخة من العسل المخلوط بالدقيق في علاج الجروح السطحية كما استعمل مزيجا من العسل وزيت الحوت في معالجة الجروح المتقيحة .
وبما أن العسل يحتوي على كثير من المعادن والفيتامينات فأنه يتميز بأنه يعطي توازنا قلويا مع الأحماض الناتجة عن القيام بمجهود جسدي . كما أنه يعالج سوء التغذية ، والأرق ، والأضطرابات النفسية ، ويفيد أيضا كعلاج لمدمني الخمر لما يحويه من الفركتوز الذي يساعد على أكسدة الكحول داخل الكبد ، وعلى تسريع الشفاء من مرض الصفيرة .
في معرفة العسل المغشوش من العسل النقي :
مثل كل الأغذية ، تعرض العسل لغش الغشاشين ، وبما أن العسل المغشوش يضر بدلا من أن ينفع ، فمن الأفضل شراؤه من مصدر ثقة . وقد أفلست الصين بتحطيمها الأسعار العالمية للعسل ، مربي النحل في معظم بلدان العالم وتحول التجار في تلك البلدان الى استيراد العسل الصيني المشكوك بسلامته ومن ثم تعبئته في مراطبين ذات ملصقات مغرية وأعادوا شحنه ألينا على أنه عسل ألماني أو عسل أتيكي من دون ذكر بلد منشئه الأصلي الصين . والجريمة الكبرى أن المختبرات كلما طورت طريقة لكشف غش العسل طور الصينيون طريقة لتمريره من دون أن يكشف . لذلك على الذي أصعد الحمار الى السطح أن ينزله لأن مستقبل تربية النحل في العالم في خطر ومن في العالم يستطيع أن يستغني عن خدمات النحل في تلقيح الأزهار وتأمين الأنتاج الزراعي وسلامة البيئة والحياة البرية .
طريقة لكشف العسل المغشوش بالنشا :
يوضع كمية من العسل مع خمس كميات من الماء في وعاء على النار حتى يغلي ، ثم يرفع عن النار ويترك فترة الى أن يبرد . عندها يضاف أليه قليل من اليود . فأذا ظهر لون أزرق أو أخضر فهذا دليل على براءة العسل من الغش بالنشا .
طريقة لكشف العسل المغشوش بالجلوكوز التجاري :
يوضع كمية من العسل ومثلها من الماء في وعاء ثم يعامل هذا المزيج بمحلول البوتاسيوم فأذا ظهر لون أحمر أو بنفسجي فهذا دليل على أن العسل مغشوش بالجلوكوز التجاري .
هاذين الأسلوبين لا يصلحان ألا مع العسل البلدي أما الأعسال المستوردة فأن أحدث المختبرات العالمية المزودة بكل الالات الفنية المتطورة لا تكفي لكشفها