في ظل الأوضاع والظروف الخاصة ، في المنطقة وعلى الساحة الفلسطينية – الأردنية التي حكمت الاوضاع العربية والفلسطينية بعد هزيمة 1967 ، كان تأسيس الجبهة الديمقراطية ، وكانت بداية عمل جناحها العسكري المقاتل الذي قدم على طريق فلسطين 1466 شهيداً من الكادر العسكري المتفرغ سقطوا منذ الانطلاقة المسلحة حتى عام 2000 ، وسقط ضعفهم من الكوادر المدنية والاهلية من الميليشيا والمنظمات الجماهيرية للجبهة الديمقراطية من الاردن الى تل الزعتر الى صبرا وشاتيلا … ليصل عدد شهداء الجبهة الديمقراطية الى ما يقارب 5000 شهيد . بينما وقع اثناء بالعمليات العسكرية 462 مقاتل اسرى بيد الاحتلال اطلق سراح معظمهم بعمليات التبادل .
وجدت الجبهة الديمقراطية نفسها منذ اللحظة الأولى أمام مهام كبيرة متعددة ومتداخلة أبرزها في تلك المرحلة :
تكريس موقعها في اطار الحركة الوطنية الفلسطينية كقوة عسكرية فاعلة .
المساهمة النشطة والفعالة عسكرياً ضد الاحتلال ، كترجمة عملية لرفض نتائج هزيمة حزيران ، واحباط التيارات الانهزامية والاستسلامية العربية .
العمل على تصحيح بعض الأسس والمفاهيم الخاطئة التي رافقت العمل المسلح الفلسطيني منذ انطلاقته الراهنة عام 1965 ،وكان أبرزها ، حصر العمل الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال في العمل المسلح واهمال اشكال النضال الأخرى .
وكانت الجبهة الديمقراطية باعتبارها قوة ناشئة وصاعدة تتعرض لأضواء المراقبة الشعبية الفلسطينية والعربية عليها ، بفعل طرحها الذي يحمل الجديد في اطار الحركة الوطنية الفلسطينية .
ولم تسمح امكانات وظروف مرحلة التأسيس ، وضغط المهمات القتالية ، لقوات الجبهة الديمقراطية المقاتلة من أخذ فترة الاعداد والتحضير والتجهيز للعمل العسكري ، حيث كانت العمليات الحربية ضد العدو هاجساً يومياً ، وفي ظل تسليحها المحدود جداً من الناحية الكمية والنوعية ، وتواضع خبرتها الفنية العسكرية ، اذ كانت النواة الأولى المقاتلة ، صاحبة تاريخ عسكري حديث ، اضافة لمحدودية الخبرة والمعرفة المباشرة ، والعملية بطبيعة الأراضي العربية المحتلة ، وضعف المعلومات الأولية الضرورية عن العدو .
ورغم ذلك كله خاضت قوات الجبهة المقاتلة ، معركة انتزاع الأعتراف بها وإثبات وجودها كقوة عسكرية فاعلة في الصراع على الساحة الفلسطينية ، بالغوص مباشرة في العمل العسكري ضد الاحتلال ، وقدمت تضحيات كبيرة ، وأظهرت نشاطاً عالياً وفعالية ملموسة ، مكنتها من اجتياز مرحلة الاختبار واثبات الوجود . وكان لنجاح القطاع المقاتل في اجتياز تلك المرحلة أثراً مباشراً ، ودوراً رئيسياً مساعداً في تمكين الجبهة الديمقراطية من اثبات وجودها كفصيل يحتل موقعاً أساسياً فاعلاً في الثورة الفلسطينية .
وبالممارسة العملية وتراكم الخبرات الميدانية العسكرية ، امتلكت الجبهة الديمقراطية نواتها التنظيمية العسكرية المتخصصة ، ولم تتمكن في تلك المرحلة من التصدي المباشر والفعال ، لمهمات نسف بعض المفاهيم الخاطئة في العمل العسكري الفلسطيني ، أو احداث تغيير نوعي فيه ، فطاقات الجبهة البشرية والمادية والعملية أولاً ، كانت في حينها محدودة ، وثانياً فقد كانت تلك المفاهيم الخاطئة مرسخة في أذهان الجماهير ، وفي صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية منذ فترة طويلة ( 1965 –
1969 ) . كما أن أصحاب تلك المفاهيم الخاطئة كانوا لا يزالون يحتلون الموقع القيادي الأول والمقرر في الحركة الوطنية الفلسطينية ، والذي احتلوه من خلال عملية تراكمية على امتداد الفترة ( 1965 – 1969 ) .
وفي المرحلة الثانية من عمل الجبهة الديمقراطية العسكري ، خاض الجناح المسلح مع قوات الميليشيا الشعبية وقوات فصائل الثورة الفلسطينية والجماهير معركة الدفاع عن الثورة ، وعن الحقوق الوطنية والديمقراطية ، عندما تعرضت مواقع قوى الثورة ، وتلك الحقوق المكتسبة للتصفية في أيلول 1970 وتموز الأحراش 1971 . وفي لبنان ( نيسان 1969 ، تشرين أول 1969 ، ايار 1973 ، ولاحقاً بعد عام 1975 – 1978 – 1981 – 1982 حتى حروب المخيمات اعوام 85 – 86 – 87 – 88 ) . وبفعل عوامل متعددة ، ذاتية وموضوعية ، خسرت قوات الثورة معركتها في الأردن. وتركت تلك الهزيمة العسكرية والسياسية ، آثارها السلبية الكبيرة ، وانعكست مباشرة على القدرة العسكرية ، والفعالية القتالية . واستمر عمل الجبهة الديمقراطية بعد خروج العمل المسلح من الاردن انطلاقاً من الاغوار مستندة الى قاعدتها الجماهيرية في الأردن ، ومستحدثة أشكال تنظيمية وعسكرية جديدة
( قواعد ارتكاز + قوات اسناد ) وضاعفت من نشاطها العسكري على الجبهة الشمالية الشرقية – الجولان ، والجبهة الشمالية – لبنان .
وبعد معارك أيلول 1970 ، وتموز 1971 ، وانسحاب قوات الثورة ، وخروج العديد من الكوادر السياسية والتنظيمية والعسكرية المكشوفة في الأردن ، أتيحت للجبهة الديمقراطية امكانات اعادة تنظيم وبناء القوات العسكرية في اوساط الجماهير الفلسطينية في الساحة السورية واللبنانية ، بالعديد من الكوادر المناضلة والمجربة الوافدة من الأردن .
ورغم العمليات الارهابية والحرب النفسية ، ومعارك الاشغال الدموية التي تعرضت لها الثورة الفلسطينية ، في المرحلة الثانية من نضالها ، إلى انها واصلت قتالها ضد العدو الصهيوني ، ومن كل الجبهات ، وبناء قوة عسكرية يحسب حسابها من قبل العدو الاسرائيلي وعملاءه .
بـدايـات متـواضعـة
منذ اللحظة الاولى لتأسيس الجبهة الديمقراطية أعلنت قيادتها رفضها لتلك المفاهيم السائدة والتي تحصر العمل ضد الاحتلال بالبندقية والقنبلة ، وتقصر المشاركة فيه على أعداد قليلة تمثل النخبة
الطليعة . كما أعلنت عن عزمها ، وكما جاء في بيان التأسيس :
" على نشر المقاومة الشعبية على كل الأرض الفلسطينية المحتلة ، والعمل على نقل العمليات الكفاحية السياسية والمسلحة والجماهيرية الى أرض الضفة الغربية وقطاع غزة والاقلال من الاعتماد على القواعد في الاغوار ، واعتبارها جسور تموين وامداد للداخل " .
وأعلنت قيادة الجبهة الديمقراطية في حينها بأنها وهي عازمة على خوض النضال بكل أشكاله ، ستعمل ما في وسعها لتغيير وتطوير المفاهيم العسكرية الصرفة ، حتى يتحول العمل الفلسطيني ضد الاحتلال من عمل خاص بمجموعات عسكرية محدودة ، الى عمل شعبي تشارك فيه أوسع وأعرض قطاعات الجماهير الوطنية المعادية للاحتلال ، وبكل أساليب وأشكال النضال العسكرية منها او السياسية والجماهيرية ، انطلاقاً من قناعتها بان أشكال النضال ضد الاحتلال متعددة ويكمل احداها الآخر ، ولا يمكن للعمل العسكري وحده ان يكون بديلاً يغني عن ممارسة الاشكال الأخرى .
فقد كان العمل العسكري وبشكله الصاخب هو همزة الوصل القوية والمؤثرة في بناء أوثق العلاقة مع الجماهير الفلسطينية . وكانت الجبهة الديمقراطية ، قبل سواها ، باعتبارها قوة جديدة ، مطالبة باثبات قدرتها العسكرية ، واثبات قدرتها أيضاً على التوفيق بين منطلقاتها النظرية وممارسة العمل القتالي . وباعتبارها تنظيم جديد فهي خاضعة للمراقبة والاختبار من قبل الجميع وميدان الاختبار الاساسي هو ميدان الصراع في الداخل وفي الأغوار .
وفي ضوء تحديد الحلقة المركزية ، وتحديد اساليب انجازها ، كان على النواة الاولى للقطاع العسكري ان تستعد لتخوض وباسرع وقت ممكن ، معركة انتزاع الاعتراف بها كقوة عسكرية فاعلة عبر انجازها عمليات عسكرية . الا أن اندفاع تلك النواة وحده لم يكن يؤهلها للشروع مباشرة