كيف نشأت وتطورت المقاومة الفلسطينية؟
كما أن الرأسمالية تخلق حفاري قبورها من العمال؛ فإن الاستعمار يخلق حفاري قبوره من الأجيال المتتالية من حركات المقاومة . ولدت حركة المقاومة الفلسطينية قبل انتصار وقبل تأسيس دولة إسرائيل. ففي العشرينات من القرن العشرين كانت فلسطين قد وقعت فريسة للانتداب البريطاني. وتحت الانتداب، ولمقاومته، نشأت حركة جماهيرية متصاعدة كانت ذروتها هي ثورة 1936 التي امتزج فيها الإضراب العام، بحركة المقاطعة، بمصادمات الشوارع. ولم يهزم ثورة 1936 إلا تحالف الرجعية الفلسطينية ممثلة في القوى السياسية المعبرة عن كبار الملاك، مع الاستعمار البريطاني، مع الأفواج الأولى من العصابات الصهيونية.
منذ ذلك التاريخ كان على حركة المقاومة الفلسطينية أن تعكس التناقضات الطبقية في داخل العسكر الفلسطيني ذاته. كل طبقة من الفلسطينيين كانت تفهم المقاومة وتراها بشكل مختلف عن باقي الطبقات.
هذه الخلافات تعمقت مع تأسيس دولة إسرائيل، ومع طرد معظم الشعب الفلسطيني خارج أرضه. فإذا كانت الصهيونية لم تفرق بين الفلسطيني الثري المالك وبين الفلسطيني الفقير المعدم عندما طردت الجميع بكل الوحشية، فإن اختلاف الطبقات بين الفلسطينيين حدد مصير كل طبقة بعد الطرد. كان للمالكين – الذين نجحوا في استباق الأحداث وفي تهريب ثرواتهم القابلة للتسييل والنقل إلى الدول العربية المجاورة – الحظ في التحول إلى رأسماليين كبار في الدول العربية التي هاجروا إليها. أما فقراء الفلسطينيين، فلم تكن لديهم ثروة ليسيلوها وينقلوها؛ كانت لديهم فقط أجسادهم الحية وقوة عملهم. عاش هؤلاء في المخيمات في الأردن ولبنان وسوريا حياة كادحين فاقدين لأوطانهم يعاملون كبشر من الدرجة الثانية (لا حقوق مواطنة، رقابة لصيقة، أجور متدنية، إهانات متكررة).
هذا الاختلاف الطبقي هو أصل الاختلاف بين التيار المهادن والتيار المتشدد في أوساط الحركة الوطنية الفلسطينية. المهادنون يسعون للدولة المستقلة ولكن بدون ثورة، بدون تصادم مع الأنظمة العربية، بدون صدام مع الإمبريالية، بل بالعكس بالتحالف معهما. أما الثوريون الراديكاليون فيرون أن الثورة هي المخرج. وفي عقد الستينات من القرن العشرين تبلور هذا التناقض بين "الحمائم" و"الصقور" في بروز عدد من المنظمات السياسية للمقاومة: حركة فتح، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وغيرهم. كانت فتح هي المنظمة الأكبر والأكثر تأثيرا. وقد لعبت دور الحمائم، ولذلك أيدتها الأنظمة العربية وساندت خطها السياسي الذي قام من ضمن ما قام على مبدأ "عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية". أما الجبهتان الشعبية والديمقراطية فقد مثلاً سويا تيارا وطنيا راديكاليا متأثرا بأفكار الستالينية وخطها السياسي.
وعلى أي حال فقد نجحت الأنظمة العربية – التي شعرت بالخوف من تصاعد المقاومة ومن تأثير هذا على استقرارها السياسي – في احتواء المنظمات الفلسطينية وفي توحيدها تحت مظلة "منظمة التحرير الفلسطينية" التي أصبحت – من وجهة نظر الطبقات الحاكمة – "المتحدث الشرعي والوحيد باسم الشعب الفلسطيني"! وبالرغم من الصدامات المتكررة بين منظمة التحرير وبين عدد من الأنظمة العربية التي أحست بتهديد المقاومة الفلسطينية لها في بعض المراحل، إلا أن المنظمة حافظت بشكل عام على خط مهادن جوهره هو الوقف ضد أي تصاعد ثوري واسع النطاق في حركة نضال الشعب الفلسطيني.
وفي أواخر الثمانينات – بالتحديد في عام 1987 – انتقلت حركة المقاومة الفلسطينية خطوة نوعية إلى الأمام. في ديسمبر من هذا العام انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وبانطلاقها دخلت الجماهير الفلسطينية إلى مسرح التاريخ مجددا، وبدأت الثورة من أسفل تلعب دورا حاسما في إعادة رسم خريطة التوازنات، سواء في الداخل الفلسطيني أو على المستويين الإقليمي والدولي.
كيف بدأت عملية السلام؟ وما هو مضمونها الحقيقي؟
لم تبدأ عملية السلام في عام 1991 (عام مؤتمر مدريد)، ولكنها بدأت فور انتهاء حرب 1973، وربما قبل ذلك. لم تدخل النظم العربية، وعلى رأسها مصر، الحرب من أجل تدمير دولة إسرائيل أو من أجل التحرير الشامل للأراضي المحتلة وفي القلب منها فلسطين، ولكنها دخلتها من أجل "تحريك القضية" بحسب تعبير أنور السادات. وتحريك القضية معناه توجيه رسالة قوية للولايات المتحدة – الحليف المأمول "الذي يمتلك 99% من أوراق اللعبة"!! – بأن لا تتجاهل مصالح البرجوازيات والنظم العربية وبأن تضعها في حسبانها جنبا إلى جنب مع مصالح إسرائيل.
وقد نجحت النظم العربية المعتدلة – إلى حد كبير – فيما سعت إليه. فمنذ ذلك الحين والولايات المتحدة تضع مصر والسعودية في اعتباراتها الإستراتيجية بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط كحليفين هامين لابد من الحفاظ على استقرارها.
بعد حرب أكتوبر دخلت مصر في مفاوضات سلام مع إسرائيل، واستطاعت – من خلال تحالفها مع الإمبريالية، والخدمات التي قدمتها لها – أن توقع معاهدة سلام مع الدولة الصهيونية. وكان على الولايات المتحدة أن تنتظر ربع قرن بعد 1977 (عام زيارة القدس الشهيرة) حتى تتهيأ الظروف وتستطيع أن تقنع (أو تجبر) نظما محورية أخرى في المنطقة بدخول عملية سلام مع إسرائيل. وقد أتت اللحظة المناسبة مع مطلع التسعينات، بعدما سقط الاتحاد السوفيتي، وأصبحت الساحة الدولية ممهدة أمام "القوة العظمى الوحيدة" للسيطرة بشكل كامل على مقدرات الوضع في الشرق الأوسط. ومن هنا بدأت عملية مدريد التي شاركت فيها منظمة التحرير الفلسطينية، والتي أفرزت اتفاقيات أوسلو الشهيرة.
لم يأت سلام أوسلو للشعب الفلسطيني – للفقراء الفلسطينيين في المخيمات – بأي شيء. زاد قهر جيش الاحتلال؛ تصاعدت البطالة؛ ظل الفقر على حاله؛ توسعت المستوطنات؛ ولم يعد اللاجئون على أراضيهم ولا حتى حصلوا على تعويضات. وأضيفت إلى الصورة سلطة عرفات بقمعها وفسادها وخدماتها الباهرة للاحتلال الصهيوني. ولذلك فقد كانت أوسلو بالنسبة لجماهير فلسطين سراًا ونقمة. وقد تجرعتها الجماهير على مدى سبع سنوات على الأقل – اتفاق وراء اتفاق، وحكومة إسرائيلية وراء حكومة، ومؤتمر قمة وراء مؤتمر قمة.
لماذا كان السلام على هذه المشكلة؟ لماذا كانت أوسلو في تجربة الجماهير أكثر مرارة من الحرب؟ لماذا استطاعت الولايات المتحدة، وتحالف الإمبريالية العالمية، أن يسويا الأمور في العديد من المناطق بينما ساء الوضع في الشرق الأوسط. جنبا إلى جنب مع الخط المهادن والمتواطئ الذي سارت عليه المنظمة التحرير والبرجوازيات العربية، يمكننا أن نفسر هذا بترتيب المصالح الأمريكية في المنطقة. فالولايات المتحدة ترى أن إسرائيل وتفوقها وأمنها وسلامتها يمثلون الضامن الأساسي لمصالحها في المنطقة. ولذلك فهي لا تقبل بتسوية سياسية تهدد – بأي مقدار – الهيمنة الاستعمارية الإقليمية للدولة الصهيونية. ويترتب على ذلك أنها ترفض تماًا أي صيغة "للسلام" تخلق دولة فلسطينية تتمتع بقدر من الاستقلال والقوة يسمحان لها – في ظروف غير متوقعة – بتهديد دولة إسرائيل.