يقول الشاعر فاروق مواسي :
قد كان صوتك موعدا
يا أيها البطل الشهيد المفتدى
والأرض تبني من دمائك
كل يوم معبدا
والزهر غذاهُ الهوى
كان النجيع الموردا مواسي : قبلة بعد الفراق ، ص 7 )
تزدان لحظات الشهداء بالورود، تحوك لهم الجماهير ألوانًا كثيرة من أكاليل الأحلام المقدسة، وتنسج لهم بريقًا داخلاً لا ينطفئ، ويهرعون إلى أعمارهم يسكبون فيها أرق التقاسيم المعزوفة على أوتار الوطن الغالي، ويمضي الشهداء في الطريق الطويل سلاحهم الابتسامة والمبادئ النقية والأمل الذي يلازمهم..... وكلهم شوق ولهفة للحفاظ على بقايا الجذور الصامدة المتحدية كل تيارات الرياح. كلهم حنين لانتفاضة النخيل على التربة غير الغنية بمقومات الحياة.
قد كان صوتك والصدى
ألقًا على درب تضمّخ في العطور
الفائحات على المدى
نارًا تلوح على المشارف لا تلين من العدا ( ن . م ، ص 8 )
الشهداء تنير لهم دماؤهم الطريق الموحشة، فتصدح الأنوار الكاشفة لهؤلاء السائرين على طريق العدل والإيمان بالعدالة المقدسة، ويأخذون مع هذه الأنوار لحظات الإحساس بقوة الأشياء التي يحملونها، بقوة الوجه الأبيض المزدان بالبراءة، والعيون التي لا ولم ولن تتحمل الخطايا، أنوار لم تدخل حياتهم بقصد التسلل، بل دخلت ربيع عمرهم بقصد وترصد وسبق إصرار، جاءت لتحافظ على روعة الإحساس في عالمهم الواسع الرحب الممتد المحاط بالصفاء. :
ها أنت منتصبًا تجيء كما الرياح
كما العواصف في لثام أربدا
ها أنت يا أملاً يغازلُ صفحة الأيام
لحنًا منشدا ( ن . م ، ص 8 )
كما الشهداء كانوا لحنًا منشدًا، والأرض تبني من دمائهم المعابد وتفوح العطور ذات الرائحة الصادقة من أجسادهم عند شاعرنا، كان الشهداء عند الشاعر المتوكل طه الزفة والمهر الغالي لفلسطين .....كانوا حروف الشواهد وصرخات الخنادق المتحدية كل الأساطيل والأبراج، كانوا العرس والزغرودة والحد الأول للدولة:
في آب اشتعلنا
في القرى الأعراس تتلو
والزغاريد على أبوابنا تعلو
شهيد آخر يعلو
وهنا أنصار يعلو بشهيدين
فما أعلى سماك!! المتوكل طه : رغوة السؤال ، ص 78 )
فالشهداء ليسوا مشهدًا عابرًا يوقظون الخيال، بل هم ملامح واقعية في خريطة الشعوب والحياة، هم حدودها، أصبغوا ألوانها بدمائهم، حددوا جهاتها الأربعة بمبادئهم، يمضون على طريقها بإصرار، يدغدغون عالم الاتجاهات لا تفصلهم مسافات عن المضي دائمًا في طريق الوعد الحق والسعادة والمجد، تطربهم أفكار العدالة والإيمان، تستهويهم وتسكن قلوبهم ، وتتحرك لهم كل الإشارات السليمة الدالة على الكبرياء والرسوخ - الإشارات التي تنسجم مع كل الأرقام والمعطيات والأسماء.
من قال مُتَّ؟؟
أمات دربٌ ظلَّ في صوت يرامقُ موعدا
يسقي الهٌدى ظمأَ الضّياع
يصير خطو المبتدا ( قبلة بعد الفراق ، ص 9 )
الشعراء عند شاعرنا مواسي لا يموتون، بل يظلون ممتدين، يطربون الذاكرة الفلسطينية الواعية بالألحان المقدسة، يبتلعون كل الأشياء الجميلة كونهم أكرم منا جميعًا، يتصاعدون نحو النجوم يحملون معهم كل الأفكار النقية، يعلنون بها التمرد والعصيان على القهر والتسلط، يرفعون خواطر قلبية واحدة، وحبًا واحدًا للعالم أجمع وعنوانه القوة والأصالة، ويقتلون الطوفان القوي لليأس، ويسيطرون على كل البقع المأساوية المغروسة في الجسد الفلسطيني المقيد بظلال الطغيان:
من قال مُتّ؟؟
أماتَ إيمانٌ يجاهدُ مجهدا؟؟
ويجيء طيرٌ من عيونكَ حاملاً عُشبًا
ندى
وسرى يلاحقُنا بأغنية مجنحة
الطهارة مسعدا ( ن . م ، ص 9 )
الشهداء كما الإيمان لا يموتون، يحضرون كالطيور التي تحمل العشب والندى والأغنية والطهارة، لهذا كانوا دائمي المشاركة في التجربة والوعي لكونهم يعتبرون الحياد إهانة. زجوا أنفسهم في انتماء عظيم لله والوطن، أبحروا فيها واحتموا من الأمواج، وسافروا يحملون زادهم العظيم (دماءهم)، وليست القصور الفاخرة ولا الموديلات الراقية، ومبادئهم تلازمهم وهي الرسالة الخاصة، رسالة بلا حروف، حروف بلا كلمات، رسالة لا يفهمها إلا أصحاب الكرامة والأفكار الصافية.
ويصيرُ سرب الطير أحلامًا
وذاكرةً وآيات
وينصب خيمة الأحلام
في سفح وروايات
يرفرف مصعدا ( ص 9 )
تنتصب خيمة أحلام الشهداء، ترفرف عاليًا، كما يبزغ النهار من شريان الشهيد لدى عبد الناصر صالح، وكما يطلع من عينيه القمر وتصهل الخيول من أهدابه، فالشهداء يتسابقون من أجل أن يشكلوا بدمائهم جدلية الموت والحياة، ويعمّدوا أجسادهم بالرمل، ويلتحقوا بالركب الطويل إلى احتفال الروح، ينـزرعون أشجارًا على درب الشهادة، يدكون عروش القمع، نعم يتسابقون يلتحمون بالرمل القديم، يسافرون لعرسهم، يتعانقون بمهرجان الحناء والمسك، حالمين بعيد الأرض، معدين النشيد الحر، صاعدين إلى قمم التوحد، يكتبون وصاياهم بحبر دمائهم يقرأون على البحر السلام، يجمعون أصدافه . الشهداء لم يغادروا دفء بيوتهم هكذا يرى عبد الناصر صالح، ويتساءل:
هل غادرَ الشهداءُ دفء بيوتهم
هل ودعوا أطفالهم
هل قبلوا زيتونة في السفح أم سروًا بأكناف الشوارع
هل على أهدابهم حطت طيور الشوق ؟
عبد الناصر صالح : المجد ينحني أمامكم ، ص 97 )
الشهداء أضافوا للأحلام لون الذاكرة، وزرعوا فيها عناوين التحوّل المنهجي والمنطقي لمفاهيم الحضارة، وأعطوها فلسفة الحكاية والفلاح والمحراث، ودفعوا بها إلى كسب الوقت وكل الأشياء وإذابة الغازات الملوثة للتفكير الإنساني، وحاصروا بها الخطايا وثورات الصمت القاتلة ، وصنعوا من هذه الأحلام ترانيم تحاصر الجوع، وأفكار تقتل الوجع، وكذلك رسموا عناوين تسامر حكايات المعذبين في الأرض، والبؤساء الذين رسموا بعذاباتهم الصورة والصوت واللوحة واللحن بإيقاع حزين... وهكذا يمضي مواسي في نغمته:
ويظل في الأفراح تسكننا
ونسكن نحن في ضوء المرابع نعنعا
فيفر يومك صانعًا شجرًا
وأمطارًا وضوءًا واعدا ( قبلة بعد الفراق ، ص 10 )
شهداء فاروق مواسي نسور شامخة، رافضة للعبودية، بوصلة يحددون الاتجاهات... حالة من حالات الوطن الذي لا ينام، حالة من حالات الثبات والدخول والخروج، هم العشق الأول للأرض والسماء والبحر والمواسم وتمازج الألوان، يعيشون في بواطن العقل والتفكير والتجربة، هم الصدق والرؤيا المستمرة لحالات امتداد الضوء، هم المدنية الثابتة والتي لا يمكن أن تهاجر أو تنتهي، هم الحضور الكاشف للرياء، هم إيقاع ودفء الشمس التي تكتشف الرجولة والشهامة والمواقع. هم احتفال الضوء عندما يخترق العيون، متسللاً إليها في طرب ودقة وعفوية.
يا أيها البطل الموَدّعُ لا عَتَب
هذا حضورك كاشفًا عنا الرّياء
في الشمس تكتشف الرجولة
والشهامة والغضب
هذا احتفال الضوء في عينيك
يأتي في طرب ( ص 11 )
الشهداء لا يعرفون ولا يفهمون لغة الرقص على الجراح، هم الدليل في الصحراء العربية القاحلة. يفكون الرموز المعقدة ويحللون الغموض الذي به يهبّون علينا مثل النسمة الطرية الرطبة في مواسم الصيف، مواسم الهجرة إلى الراحة والخلود، مواسم قطف الثمار اليانعة، نعم يزرعون في أشعة الشمس القوية نسمات تساندنا على المسير، تقف مع الفلاح في أرضه، مع صانع عود المحراث في معمله، مع التاجر في رحلته وأسفاره حقًا شهداء يعيشون داخل حجرات النور. ولكن من سيفتحها بعدهم ؟ من هو الذي سيقرأ سورة الصبر التي علمها كي يزيد العشق كل يوم؟؟
من ذا سيفتح حجرة النور التي الّقتها؟؟
من ذا سيقرأ سورة الصبر التي لقنتها؟
ليزيد عشقك يا دم الأحباب
يومًا بعد يوم ؟
الشهداء يختصرون لنا المسافة بين العقل والضوء، يغرقون المتسلقين في بحر الحياة الواسع يسيرون قوافل...... قوافل غير مكترثين بالبكاء والعويل، يسامرون السماء، يرتفعون عندها . هم لوحة فنية أبدعتها صورة الخالق.... هم الأرض والهوية ونشيد البحر وأوجاع الحصار ينحني المجد أمامهم، سنابلهم ذهبية تنتج الآلاف من الحب والخير والبركة، يشكلون بقوتهم صرحًا للصمود. فرسان يتقدمون حتى رفع الراية، وإحقاق الحق، قبلوا الأرض واستراحوا من العناء والتعب والمشقة، يحدثون عن الرغاب الواعدة والأرض، يرسمون الشجر الظليل كي نتفيأ بظلاله:
حدث بربك يا شهيد عن الرغابِ الواعده
حدث عن الأرض التي درت طيوبًا رائده
ارسم لنا شجرًا يظللُ
ما نويت وما رويت. ( ص 12 )
يحتل الشهداء أرواحنا دائمًا، ويعجبني في هذا السياق قول الكاتب الفلسطيني محمد روحي " أحاول التنقيب عن معدن ثمين اسمه الفرح، فلا أجد غير معدن آخر هو الحزن الأسود، والحزن الفلسطيني هو فحمنا البشري الذي نتدفأ عليه ، بل نكتوي ونحترق بنيران فقدانه، والفحم الفلسطيني هو جذوع الشهداء...."
ولنعد إلى مواسي وهو يحدو لهذه الجذوع:ا
ارسم لنا نهرًا وهات
الكوكب الدري قربه
ارسم لنا
شوق المراهق للجديلـــــه
لقد أكمل شاعرنا فاروق مواسي صورته التي بناها عن العمالقة الشهداء، قدمها بأسلوب إبداعي رائع، التقط الفكرة المقدسة لحياتهم فرسمها بمفهومها العميق، فَجّر ينابيع المحبة والأصالة والتفاهم، بلور كل الصيغ لخلق الدائرة الواحدة للبعد عن حالات العمق والمد والجزر، مستخدمًا أسلوب الإلحاح اللفظي والتكرار القوي ليؤكد على مجموعة حقائق تدور في فلك الشهداء، وكذلك أسلوب الدلالات الكثيرة لتوضيح فكرة المجهول، صاعدًا مع صدى الكلمات، حاملاً معها أجنحة الفعل البناء طالبًا من الشهيد أن يرسم نهرًا ، وأن يأتي بكوكب دري قرب هذا النهر، وأن يرسم نارًا كي يجعلها شهدًا، وأن يقبل الأطفال ليرفرف العلم فوق أرض الدولة الفتية:
ارسم لنا
نارًا لنجعل هذه النيران شهدًا
ونقبل الأطفال في وجناتهم عذبًا وندا
(لتصير دولتك الفتية ساعدا
حتى يرفرف فوق أرضك خافقًا
علم...... فمرحى يا علم!) ( ص 13 )
وهكذا روى لنا مواسي عن طبيعة الشهداء المفعمة بالإثارة والصدق، بل المليئة بالألوان الزاهية. هؤلاء الشهداء الذين بدمائهم جابهوا كل الأعاصير بسعة صدر، وكل العراقيل المرسومة على جدران الزمن ولوحات الوقت ، فهم إذن النور والصفاء الذي يرتسم فوق خدود الأطفال، وحكمة الشيوخ وقوة الشباب ....هم مزروعون بكل حنان فوق جسور عمرنا، غارقون حتى الأعماق في وجداننا، سائرون على دروب الإيثار والتضحية وحب الآخرين، ضاربون الأنانية وحب الذات والتفرد بعرض الحائط.
إنهم حقًا شهداء ....يثيرون في داخلنا عناصر الجمال..... يجسدون الصورة المعنوية بكل التفاصيل، فربما يكون للزمن بقية ، ويلتحق في ركبهم الجميع.
بهذه الصور الحسية رافق شاعرنا الأشخاص الذين كان موتهم غير طبيعي، وبهذه الصلابة مخر مواسي في بحرهم الواسع ، وبنفس المتانة أوضح المواسي ترانيم تعيش في عالمهم، وتغني لهم ، وذلك لكونهم يتمتعون بسمة الخصوصية:
انهض ولا تتردد
انهض بربك، طمئن الأم الرؤوم
وامسح دموعًا ساجلتها أغنيـــه!
بحت مع الآهات كل الأدعيـــــه
يطالب مواسي الشهداء أن ينهضوا دون أدنى تردد، أن يسيروا إلى الأم الحنونة - أم الشهيد العزيزة، ويبثوا في قلبها الطمأنينة والراحة، علهم يطمئنون الأمهات على المصير الرائع والنهاية الجميلة المرجوة (الشهادة)، ويمسحون الدموع التي تساجل الأغاني، الأغاني التي بحت مع الآهات الخارجة من الأعماق، الناطقة بكل الأدعية، المرددة صوت الضمير الواعي........ ويستمر مواسي مطالبته بأن يقتلوا حزن الأرض وحزن الإنسان، ويرحلوا مع الضوء، يمزجوا دمائهم بالخضرة والنماء، يمزجوها بالتراب والحناء .....كي تنبت لنا شقائق النعمان، كي تزهر لنا حنونًا أحمر، كي تزرع في عقولنا النضال ورقة المكاشفات والمساجلات والصور الحية، كي تورق في شبابنا براعم جديدة قادرة على حمل الرسالة وإيصالها إلى مكانها المناسب. كي تحطم في داخلنا كل مشاعر الرياء والنفاق والزيف والتفرد.
انهض فليست معجزه
أن تكتب الأفعال عند الأمسيــــه
للشمس تزجي الصحو
بعد الأمنيــــه
شهداء مواسي جادوا كي يردوا للطفولة الفلسطينية اعتبارها، ويعيدوا للأقصى كل الترانيم المقدسة في ليالي رمضان وعاشوراء. ويبللوا ورود الأرض بقطرات الندى العبق الجذاب، ويساعدوا البحر على الاستقرار وقلع الأمواج التي تقلب السفن وتغرق البحارة، ويعيدوا للأيام كل ربيعها، ويجددوا سهرات الليالي في شهر نيسان والربابة تعزف والنجوم تتلألأ.
شهداء مواسي حضروا كي يقتلوا الصمت، ويجعلوا الفراشات ترقص للحياة من جديد، جاءوا يتوجون الأحلام العربية بالطهارة، ينزعون من صمت الأرض حكايات ومواويل وأغاني السيف والفروسية والتهليلة.
سال الدم على عتبات الفجر الإبراهيمي
أسقاهم كأسًا قبل الإفطار
- قبل الفرحة -
"كان يقودهم للجنـــه