يعرض الكتاب في فصوله الخمسة تجربة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين؛ من خلال إضاءة جوانب عديدة
وموثقة من إسهاماتها في إثراء العملية الوطنية التحررية للشعب الفلسطيني فكراً ومقاومة، والاشتقاقات السياسية والبنية التنظيمية، وتحالفاتها الفلسطينية والعربية والأممية، وجدير بالذكر أن مادة الكتاب هي أطروحة ماجستير قدمها الكاتب لمعهد البحوث والدراسات العربية التابع للجامعة العربية في 17/10/2004 ونال عليها مرتبة الشرف.
ويوضح الكاتب في مقدمة كتابه دوافع اختياره لموضوع الكتاب؛ بالتأكيد على أن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ولدت في لحظة مفصلية من تاريخ القضية الفلسطينية، ومثلت هذه الولادة رد اليسار الفلسطيني المسلح على هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وشكلت في سياق تنامي واستمرار وتعميق التجربة الفكرية والسياسية والتنظيمية منصة لتكريس الهوية والتمثيل الفلسطيني المستقل.
مدخل الكتاب يستعرض بشكل مكثف تجربة حركة القوميين العرب التي ولدت من رحمها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ويخلص الكاتب إلى أن تجربة الحركة (وصلت إلى طريق مسدود في العام 1958، فاضطر المركز القيادي إلى "الالتحام بالناصرية"، وبعدها بدأت عملية استقلال التنظيم في كل قطر عربي، وسير الفروع القطرية لشق طريق تطورها المستقل بتحولاتها الإيديولوجية وخصوصيات برامجها القطرية، فالقيادة المركزية لم تستطع أن تقدم ما كان مطلوباً منها، عدا عن ذلك أنه لم يكن للحركة دستور أو برنامج تسير عليه، أو تسترشد به). ويضيف الكاتب (ثم حدثت تناقضات واختلافات عديدة داخل حركة القوميين العرب، وأخذت الفروع العربية في الاستقلال عن الحركة، وامتدت جذور التناقض في صفوف الحركة إلى أوائل الستينيات، واستفحل التناقض بين تيارين، الأول يميني يحاول تكريس المنشأ البرجوازي القومي للحركة، والثاني تقدمي يحاول التخلص من أفكار وبرامج اليمين البرجوازية. ثم ينتقل إلى تجربة تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والإرهاصات الأولى لنشأة الجبهة الديمقراطية، وفي ذلك يقول الكاتب (كثرت الخلافات داخل الجبهة الشعبية بين الجناح اليميني والجناح التقدمي، وازدادت حدة التباينات والاختلافات حول العديد من القضايا والأحداث، وكذلك الاختلاف حول التوجهات الفكرية بين الفريقين). ويضيف الكاتب (مثل مؤتمر آب/ أغسطس 1968 علامة فارقة في العلاقة بين الفريقين، وانعقد المؤتمر في سياق مؤتمرات تموز/ يوليو 1968 القطرية في كل فروع الحركة، التي واصلت تطورها المستقل، وكان من الطبيعي أن تعتريه نواقص معينة في الارتقاء إلى درجة أعلى من التحضير والاستعداد مع أن الانتخابات قد تمت تحضيراً للمؤتمر ذاته وصولاً إلى وثيقة أولية تم إعدادها .. حضر المؤتمر الاتجاه الوطني اليساري والاتجاه القومي التقليدي وكان ضمن المشاركين نايف حواتمة، أبو علي مصطفى، حمد الفرحان، عبد الكريم حمد، عمر القاسم، عبد الغني هللو، سعيد البطل (أبو مشهور)، حمدي مطر، د. نظمي خورشيد، مها بسطامي، حسين سالم ..الخ. لكن جورج حبش تغيب عن المؤتمر لأنه كان معتقلاً في سوريا آنذاك). ويخلص الكاتب إلى أن مؤتمر آب جاء ليشكل علامة فارقة تاريخية في الصراع الفكري والسياسي والتنظيمي القائم بين جناحي الجبهة على الساحة الفلسطينية ـ الأردنية، فقد تقدم الجناح اليساري بمجموعة الوثائق التي شكلت مادة المؤتمر، وجدول أعماله، وخاض اليسار معركته الإيديولوجية والسياسية مع اليمين داخل المؤتمر وقدم تقريرا ًتحت عنوان "طريق الخلاص الوطني"، نقاطه الرئيسية، أيديولوجية ثورية علمية، وتغذية حركة الجدل، ونقد الحركة الوطنية الفلسطينية، واقتراح إنشاء جبهة وطنية ترتكز إلى برنامج الحد الأدنى، والكفاح ضد إسرائيل والصهيونية لإقامة دولة ديمقراطية، تضمن حقوق الشعب الفلسطيني، والحقوق الثقافية والدينية لليهود. ويختم الكاتب مدخل كتابة بالإشارة إلى أن خروج الجبهة الديمقراطية في 22 شباط/فبراير 1969كان لأسباب عدة منها؛ ما يتعلق بالخلافات التي حدثت في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بين الجناح التقدمي بقيادة نايف حواتمة، والجناح اليميني، وهي أسباب كافية لا يمكن التقليل من شأنها.
نشأة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
يستعرض الكاتب في الفصل الأول من الكتاب نشأة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ويتضمن الفصل خمسة بحوث، البحث الأول الانطلاقة والمؤتمرات الوطنية، البحث الثاني التنظيم الداخلي، البحث الثالث الأفكار التي قامت عليها الجبهة الديمقراطية، البحث الرابع مصادر التمويل.
في البحث الأول يوثق الكاتب بشكل مختصر لمسيرة وقرارات المؤتمرات الوطنية للجبهة الديمقراطية بدءً من المؤتمر التأسيسي (المؤتمر الوطني الأول) في آب/أغسطس 1970، وصولاً إلى الكونفرنس الوطني العام الثاني تموز/يوليو 1971.
ويُثْبتُ الكاتب أن الفكر السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين تركز طيلة الفترة الممتدة من الكونفرنس المنعقد في تشرين الثاني/نوفمبر 1971 إلى المؤتمر الثاني المنعقد في أيار/مايو 1981، أي على امتداد عشر سنوات، على أن عملية بناء تنظيم ثوري وجماهيري تتطلب قيادة مركزية حازمة، وذات صلاحيات واسعة، تمكنها من التطور السريع لأشكال التنظيم وأنماط وأساليب العمل، بما جعلها تنسجم وتتكيف بمرونة ودون إبطاء مع وتيرة عملية البناء، وتوجت النجاحات بانعقاد المؤتمر العام الثاني المنتخب، الذي قام بدوره بانتخاب اللجنة المركزية الجديدة الثالثة، بأسلوب الترشيح الفردي الحر، والاقتراع السري، مستبعداً نظام القائمة المقترحة مركزياً، الذي كانت تأخذ به العديد من الأحزاب. وصدرت عن المؤتمر وثيقة نظرية وسياسية وتنظيمية هامة، اعتبرت مساهمة واضحة في تحليل وتشخيص أعمق للقضية الفلسطينية، ولبرنامج النضال الوطني الفلسطيني المرحلي، ولمعضلات حركة التحرر العربية، لاجتراح خط عمل فلسطيني وعربي، ضمن أفق إنجاز مهام التحرر الوطني والثورة الوطنية الديمقراطية على المستوى القطري، وفي إطار تداعياتها على المستوى القومي.
وفي البحث الثاني حول التنظيم الداخلي يؤكد الكاتب أن اعتماد الجبهة لمبدأ المركزية الديمقراطية، أغنى نضالها من أجل تطبيق هذا المبدأ بكامله على أوضاع الجبهة، كجزء من نضالها لبناء منظمة كفاحية مستقلة.. وهذا المبدأ قاد إلى وحدة الإرادة ووحدة الفكر داخل صفوف الجبهة، على أساس البرنامج السياسي، ومقررات الهيئات القيادية، والمؤتمرات العامة أو الفرعية، وذلك جنباً إلى جنب مع ممارسة كافة أشكال الديمقراطية الداخلية التي تتيح لكل منظمة من منظمات الجبهة، ولكل عضو، المساهمة في النقاش، وفي تقريره لسياسة الجبهة الديمقراطية.
وفي المبحث الثالث يثبت الكاتب أنه تم إرساء التجانس الفكري والأيديولوجي في الجبهة الديمقراطية، منذ وقت مبكر بعد انطلاقتها، حصيلة مخاض الحوار الداخلي، بما تضمنته من مراجعات نقدية جريئة، ومعاناة على مختلف المستويات البرنامجية والتنظيمية، جرى ترسيمها في القرارات والتوجهات الهامة التي أقرها الكونفرنس الأول. ويضيف الكاتب (لقد مارست الجبهة تأثيراً سياسياً مؤثراً على فكر المقاومة، وطرحت مبادئها بجرأة ووضوح، ففي تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1973 اقترحت الجبهة الديمقراطية أن تقوم منظمة التحرير الفلسطينية كخطوة أولى بالتركيز على الحاجة إلى إقامة سلطة وطنية فلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967، ولقيت هذه الصيغة دعماً لدى التنظيمات الفدائية الأخرى، وفي وقت مبكر من العام 1974 تقدمت بها بصورة مشتركة مع كل من فتح والصاعقة كمشروع قرار إلى المجلس المركزي لمنظمة التحرير، وأصبح هذا الاقتراح أساس البرنامج الذي تبناه المجلس الوطني الفلسطيني الثاني عشر في تموز/ يوليو 1974، وبالتالي أصبح أساس المبادرة البرنامجية السياسية والدبلوماسية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
الجبهة الديمقراطية والوحدة الوطنية
في الفصل الثاني من الكتاب يركز الكاتب على دور الجبهة الديمقراطية في تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية وتمتينها والحفاظ عليها، ويشدد الكاتب أن الموقع المركزي الذي احتلته الوحدة الوطنية في الفكر السياسي للجبهة الديمقراطية وممارساتها، لم تبدأ وحسب أثناء فترة العمل العلني في الأردن، وعلى امتداد تجربة الثورة في مخيمات الشتات في لبنان وسوريا حتى الاجتياح الإسرائيلي 1982، بل برزت أيضاً في زمن الانقسامات الحادة التي اجتاحت فتح وانحياز فصائل في الصراع بين جناحي فتح في الساحة الفلسطينية، بعد تلك الحرب، ضمن تداعيات الغزو الإسرائيلي، وصراع المحاور الإقليمية، واتخذت الجبهة موقفاً حاسماً ضد الانقسام الفلسطيني، على امتداد 1982 ـ 1987 . وكمحطات بارزة في إسهامات الجبهة على هذا الصعيد يسلط الكاتب الضوء على دورها في انعقاد الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني في الجزائر 1987، التي تم بها استعادة وحدة منظمة التحرير الفلسطينية، والدور الذي لعبته الجبهة الديمقراطية باتجاه توحيد الموقف الفلسطيني لعقد القمة العربية في الجزائر 1988 دعماً لانتفاضة الشعب الفلسطيني.
العمل العسكري للجبهة الديمقراطية
في الفصل الثالث الذي كرسه الكاتب للعمل العسكري للجبهة الديمقراطية، يؤكد الكاتب أن الجبهة الديمقراطية دعت إلى سياسة تعبوية عامة للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وخاصة في أراض 1948 ولبنان والأردن، ومارست فعلاً سياسة تعبوية متقدمة، ولها دور رئيسي في كل حروب الدفاع عن الشعب والمخيمات والثورة في أغوار الأردن والجولان، وسيناء وجنوب لبنان، ونفذت عشرات العمليات العسكرية النوعية الكبيرة ضد الاحتلال الإسرائيلي داخل فلسطين المحتلة 1948 ـ 1967، وانتقدت الجبهة اعتبار الكفاح المسلح الأسلوب الوحيد للنضال الوطني، بدلاً من اعتباره الأسلوب الرئيسي، وأضافت بأن الكفاح المسلح يلعب دوراً في استنهاض سائر إشكال النضال الجماهيري. كما تطور مفهوم الحرب الشعبية لدى الجبهة الديمقراطية ليشمل عنصراً جديداً، هو العمل الدبلوماسي، فلولا الكفاح المسلح لما تم تحقيق نتائج دبلوماسية على مختلف النواحي. وبعدها يرصد الكاتب الإسهام العسكري للجبهة والعمليات النوعية التي نفذتها القوات المسلحة العسكرية للجبهة.
علاقات الجبهة الديمقراطية على الصعيد الفلسطيني
وفي الفصل الرابع من الكتاب المكرس لعلاقات الجبهة على الصعيد الفلسطيني، يؤكد الكاتب بفيض الوقائع والشواهد أن الجبهة الديمقراطية شاركت بدور أساسي في إعمار وبناء الوحدة الوطنية تحت سقف منظمة التحرير الفلسطينية الائتلافية، عملاً بسياسة القواسم المشتركة، وتغليب التناقض الرئيسي مع الكيان التوسعي الإسرائيلي على التعارضات الداخلية في الائتلاف والتحالفات الوطنية، حيث مثل هذا نهجاً اتبعته الجبهة في خط سيرها، منذ البداية وحتى الآن.
العلاقات العربية والدولية للجبهة الديمقراطية
وفي الفصل السادس والأخير من الكتاب المتضمن رصد العلاقات الخارجية للجبهة الديمقراطية يرى الكاتب بان أحد الثوابت التي سارت عليها الجبهة الديمقراطية في هذا المجال في علاقاتها مع الدول العربية ودول العالم على حد سواء، النضال بحزم من أجل الحفاظ على القرار الوطني الفلسطيني المستقل، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بحرية، وعلى هذا الأساس صاغت وبنت شبكة علاقات واسعة مع الدول العربية ومنظومة الدول الاشتراكية، ودول أمريكيا اللاتينية، والقوى اليسارية والتقدمية العربية والعالمية، ووظفت هذه العلاقات لصالح تعزيز التضامن والإسناد العربي والأممي مع الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وفي الطرق إلى ذلك خاضت سجالات كبرى مع العديد من الدول الرجعية العربية، بل وأكثر من ذلك لم تتوانَ في نقد جوانب عديدة من سياسة الاتحاد السوفيتي على ما كان يمثله من قوة وثقل آنذاك.
وبالإجمال؛ إن قارئ الكتاب سيخلص بذات الخلاصة التي خرج بها الكاتب الفلسطيني عبد القادر ياسين في المقدمة التي وضعها للطبعة الأولى، وهي أنه من موقع المختلف كتب أشرف محمد أحمد إسماعيل هذه الدراسة، ولكنه ظل نزيهاً، والتزم بالمعايير العلمية تحليلاً وتوثيقاً، وبالاعتماد على مصادر متنوعة