علام تركز الفرضيات والنظريات السائدة في علم الاجتماع الأسري المتعلقة بتكوين الأسر وترابطها وتطور بنيانها ووظائفها وما هي العوامل المؤثرة في هذا المجال؟يذكر الدكتور باسم سرحان في كتاب «تحولات الأسرة الفلسطينية في الشتات – دراسة سوسيولوجية مقارنة»
(الصادر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت) «ان الأسرة والتكوين الأسري وشكل ومضمون العلاقات الأسرية هي نتاج التشكيلة الاجتماعية – الاقتصادية القائمة في مرحلة تاريخية معينة».
فما الذي وجده سرحان مع فريق عمله الذي تابع ثلاثين أسرة فلسطينية في كل من سورية ولبنان (15 عائلة في كل بلد). وما هي الخلاصات التي توصل اليها ميدانياً بالنسبة الى العائلة الفلسطينية، والى العلاقات العائلية بعد مرور ما يزيد على خمسين سنة من النكبة؟ واختيرت عائلات تعود في أصولها الى مجتمعات بدوية وفلاحية ومدينية في فلسطين، وتركّز البحث على اجيال ثلاثة ممتدة من تلك العائلات. الجد الذي وُلد وعاش زمناً في فلسطين، والابن الذي شهد جانباً من طفولته فيها، والحفيد الذي ولد في بلد الشتات. كما اختير افراد العينة من اللاجئين الفلسطينيين في كل من سورية ولبنان الموزعين على المخيمات في كلا البلدين وعلى بعض المدن فيهما. ومن أبرز المواضيع التي تناولها البحث الميداني، والتي احتلت عناوين مهمة من فصول الكتاب هي واقع الاسرة الفلسطينية قبل النكبة، والحراك الجغرافي والاجتماعي للأسرة الفلسطينية في بلدي الشتات، وحال الترابط والتواصل في هذه الأسر بعد النكبة، والتنوع في تركيب أسرة الشتات ومضاعفاته لجهة صلة القرابة او الزواج المختلط، ثم واقع المرأة الفلسطينية الراهن في الشتات ومكانتها، والتغير البنيوي في الأسرة من حيث سلطة رب الأسرة وتغير العادات والتقاليد، وتأثير الفوارق في الثروة والدخل في العلاقات الاسرية وغير ذلك من مواضيع وعناوين.
ظواهر جديدة
كشفت الدراسة الميدانية تغيرات برزت بوضوح في أوساط العينات المبحوثة. فمثلاً، اختفى التمييز بين الأسر الفلاحية والبدوية والمدينية والحضرية، وتحول واقع الشتات الى أسر حضرية، وصلت الى حد الاندماج في اقتصادات المدن العربية. ولم يبق من تأثير في صعيد النسق القيمي للخلفية السابقة الا ترسبات نادرة، خصوصاً مع افراد الجيلين الثاني والثالث (الإبن والحفيد) الذين وُلد معظمهم خارج فلسطين. كما انتهى عملياً نظام تعدد الزوجات، وحل محله نظام الطلاق والدخول في زواج جديد. وظهر من إجابات الجيل الاول من المبحوثين ان تعدد الزوجات لم يكن سائداً على نطاق واسع في اوساط الفلسطينيين قبل النكبة. أما مفهوم الواجب والالتزام العائلي الواسع، فانحسر لدى غالبية أفراد الجيلين الثاني والثالث وترافق مع اختفاء التدخل الفعلي من الاقرباء. كما تراجع نمط الزواج الداخلي، وخصوصاً بالاقرباء من الدرجة الاولى، ليحل محله نمط الزواج الخارجي. ولم يعد الزواج من عرب آخرين مرفوضاً. في حين ان الزواج من غير العرب لم يلق قبولاً او تأييداً بين الجنسين.
والواقع أنّ الشكل الجديد لأسرة الشتات الفلسطينية لم يستقرّ بعد،
ومع ذلك فهناك تغيرات تراكمت وتواصلت في بنية الأسرة الفلسطينية في الشتات... وصولاً الى بروز نوع من السلوكيات والوقائع والاعتبارات والمؤشرات تفيد بتعديل واضح في التركيبة والتراتبية الأسرية الفلسطينية، بين ما كان قبل النكبة وما اصبحت تخطه وقائع حياة النكبة. فعلى سبيل المثال، أدى الشتات وفقدان القاعدة الاقتصادية الموحدة الى إضعاف بنية العائلة الفلسطينية التقليدية الممتدة، وأسهما في تسريع سيادة العائلة النووية – من نواة – القائمة على النواة الفردية فقط. وظهر بوضوح – من خلال آراء المبحوثين – أن حالة الشتات أضعفت مكانة كبير العائلة الممتدة وسلطته وحولتهما إلى مكانة معنوية فاقدة لأي سلطة حقيقية على أفراد العائلة. كما ظهرت بوضوح العلاقة الجدلية بين الحراك الاجتماعي الجغرافي متمثلاً في التباعد السكاني ان كان في البلد الواحد، أو في بلدان عدة لأطراف الأسرة الممتدة، وبين الضعف الذي أصاب العلاقات والروابط الأسرية.
وظهر ضعف واضح في مجال التواصل والترابط بين الأقرباء المقيمين في بلاد مختلفة، بل وبين المقيمين في البلد نفسه بمن فيهم المقيمون في المخيم والمدينة. ويستدرك الباحث في استنتاجه السابق قائلاً: «ليس بالضرورة ان يكون ضعف التواصل والترابط العائلي مسألة اختيارية فهو في أحيان كثيرة ناجم عن الظروف الموضوعية التي تعيشها العائلات، والتي تشمل إضافة إلى البعد المكاني، الانشغال وأعباء المعيشة».
وأجمع المبحوثون على أنّ سلطة رب الأسرة على زوجته وابنائه ضعفت كثيراً، مقابل بروز أسرة نووية تقوم على المشاركة، أي مشاركة أفراد الأسرة للأب في القرارات التي تمس شؤون الأسرة ككل، كما تقوم في معظمها على الحوار والتفاهم.
أما مكانة المرأة الفلسطينية فشهدت تحسّناً كبيراً، إذ أسهم التعليم والعمل وقيام الثورة الفلسطينية منذ ستينات القرن الماضي ومساهمة المرأة الفلسطينية فيها، في تحررها من التبعية المطلقة للرجل، وعززت دورها في الحياة الأسرية والمجتمع أيضاً.
من جهة أخرى، أشار الباحث إلى أن الدراسة بينت وجود حال من الاستقرار لدى الفلسطينيين المقيمين في سورية، في مقابل عدم استقرار عند المقيمين في لبنان. ويضيف الباحث ملاحظة مهمة تتعلق بفلسطينيي لبنان، هي» ان الاسرة الفلسطينية في لبنان مهددة بالتمزق عبر المزيد من التشتت. كما ان تركيبتها عرضة لتغيير شديد. وفي حال استمر تفرق أعضائها حتى على مستوى الأسرة النووية، فلن تكون بأي شكل من الاشكال شبيهة بأسرة الاجداد الذين اقتلعوا من فلسطين، ولا بأسرة الآباء الذين خرجوا اطفالاً من فلسطين وترعرعوا في المنافي، وانما ستكون اسرة ذات تركيب متنوع قومياً ولغوياً وثقافياً».
وأشار الكتاب الى ان عدد الفلسطينيين في لبنان كان 110 آلاف عام 1948، وان عددهم بحسب احصاءات الاونروا كان 386 ألفاً في عام 2000. الا انه نتيجة لعوامل عدة، بينها الحرب في لبنان فإنه لا يقيم فيه وبصفة دائمة أكثر من 200 ألف لاجئ فلسطيني. اما في سورية، فإن عدد الفلسطينيين فيها كان 80 ألفاً في عام 1948، في حين ان عددهم تراوح بين 370 ألفاً و410 آلاف في عام 2000. وأظهرت احدى الدراسات ان 40 في المئة من الفلسطينييـــــن في لبنان ولــدوا في مكان آخر غير مكـــــان اقامتهــــم الحالي، وان 80 في المئـــــة من الأسر الفلسطينيـــــة في لبنان كان لها اقرباء مقيمون في الخارج.
وتخلص الدراسة الى ولادة أسرة فلسطينية جديدة في الشتات مع اعضاء اكثر قدرة وكفاية ووعياً وحرية، وان كانت – ربما – أقل دفئاً، وربما ضعفت وتفككت الاسرة الممتدة الواسعة وتغير شكلها ومضمون علاقاتها قياساً الى شكلها ومضمونها التقليديين اللذين سادا في فلسطين قبل النكبة.