كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية على خطى «القوات المسلحة الثورية» و«قوات النجم الأحمر»
البدايات الأولى.. القوات المسلحة الثورية
يخطئ من ينظر إلى “كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية” الجناح المقاتل للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، خارج السياق العام لتاريخ الجبهة الديمقراطية ودورها في مجمل العملية الكفاحية للشعب الفلسطيني وقواه السياسية، وبشكل خاص، في ميدان العمل المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي. إن تجربة “كتائب المقاومة” تأتي في امتداد التجربة المشرقة للجبهة الديمقراطية في مجال الكفاح المسلح ضد الاحتلال منذ انطلاقتها في 22 شباط (فبراير) 1969.
لقد أسست الجبهة الديمقراطية، مع اللحظة الأولى لانطلاقتها، جناحها المقاتل، والذي سمي آنذاك “القوات المسلحة الثورية”. وقد سطرت هذه القوات، إلى جانب باقي التشكيلات الفدائية لفصائل المقاومة الفلسطينية عمليات بطولية، احتلت مكانها في التاريخ المضيء للشعب الفلسطيني. ويمكن القول إنه لو قارنّا بين الإمكانات المحـدودة التي توفرت “للقوات المسلحة الثورية” آنذاك، وبين الأعمال العسكرية المميزة التي نفذتها بشجاعة وإقدام ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه، لوجب التأكيد أن هذه القوات خطت سريعاً الخطوات الضرورية لتحتل مكانتها المميزة في الصفوف الأولى، في ميدان الإبداع في تطوير الكفاح المسلح الفلسطيني وأساليبه وتكتيكاته المختلفة.
ويسجل للجبهة الديمقراطية أنها حاولت تجاوز الحالة التقليدية، في الاعتماد فقط على المقاتلين المفرغين والمحترفين، حين أشركت عناصر الميليشيا الشعبية (الشعب المسلح) إلى جانب مقاتلي “القوات المسلحة الثورية” في العمليات النوعية التي نفذتها في منطقة غور الأردن ضد دوريات العدو ومواقعه العسكرية ومستوطناته على حدود الضفة الفلسطينية المحتلة. ويسجل التاريخ لهذا النوع من القتال المتطور سلسلة من العمليات أهمها “مناجل الشمال”، “هوشي منه”، وغيرها. وهي عمليات حرصت “القوات المسلحة الثورية” على إشراك أكبر عدد ممكن من المقاتلين فيها واستهداف أكثر من هدف معادي في الوقت نفسه، في سبيل شق الطريق أمام الشعار الذي رفع آنذاك “الحرب الشعبية طويلة الأمد”. كما يسجل “للقوات المسلحة الثورية” أنها أعطت للعمل المسلح بعده السياسي، حين رفعت شعار “البندقية والوعي السياسي يداً بيد” وشعار “لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية”، في مواجهة الشعار الشعبوي القائل “هويتي بندقيتي” فأغفل الهوية السياسية للبندقية ولحاملها.
لبنان.. تجارب جديدة
إثر أحداث أيلول 1970 في الأردن وتداعياتها التي أطلقت انحسار ظاهرة العمل العلني للمقاومة الفلسطينية في الأردن وصولاً إلى انتهائها بعد مواجهات جَرَش – عجلون في تموز 1971، تعزز الوجود العسكري للمقاومة في جنوب لبنان مع استمرار توضعه على جبهة الجولان. وفي هذا السياق توجهت الجبهة الديمقراطية نحو بناء تجربة متجددة في العمل العسكري، مستفيدة من دروس التجربة في الأردن.
فإلى جانب إعادة بناء قواتها المسلحة الثورية وفق تشكيلات فدائية تأخذ بالاعتبار الظروف الخاصة بالجنوب اللبناني، حرصت على إغناء هذه التجربة بسلسلة من التوجهات الإضافية من بينها الحرص على حماية التشكيلات العسكرية الفدائية في جنوب لبنان عبر أسلوبين يتكاملان فيما بينهما. الأول: عبر بناء تشكيلات شبه عسكرية من القادرين على حمل السلاح، دون التفرغ للعمل السياسي أو العسكري، تضم في صفوفها سكان المخيمات والتجمعات السكنية الفلسطينية على مختلف انتماءاتها الاجتماعية، تستدعى لحمل السلاح دفاعاً عن المخيمات ضد مخاطر الاعتداءات الإسرائيلية، ولتعزيز مواقع “القوات المسلحة الثورية” في حالات التأهب في مواجهة الاجتياحات والتوغلات العسكرية الإسرائيلية في جنوب لبنان. الأسلوب الثاني العمل على نسج علاقات إيجابية مع القوى الوطنية اللبنانية على قاعدة الكفاح المشترك ضد العدو الإسرائيلي، وفي سبيل الدفاع ـ جنباً إلى جنب ـ عن أرض الجنوب، والتصدي في الوقت نفسه لسياسات الحكومة اللبنانية في التضييق على العمل المسلح الفلسطيني وجره إلى صدامات جانبية.
لقد كتبت “القوات المسلحة الثورية”، وإلى جانبها تشكيلات الميليشيا الشعبية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين على الأرض اللبنانية تاريخاً مجيداً.
فقد نفذت العديد من العمليات البطولية، اجتازت خلالها الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية وتوغلت في الأراضي الفلسطينية المغتصبة، وأوقعت في صفوف العدو خسائر فادحة، مازال الجانب الإسرائيلي يذكرها بحقد شديد ضد الجبهة الديمقراطية وتشكيلاتها العسكرية. من أهم هذه العمليات، على سبيل المثال، لا الحصر، عملية معالوت (ترشيحا)، عملية مستوطنة شيرشوف، عملية بيسان، عملية طبريا، عمليتي القدس الأولى والثانية.. الخ.
كما لعبت “القوات المسلحة الثورية”، إلى جانب باقي منظمات الجبهة وتشكيلاتها شبه العسكرية دوراً بارزاً في الدفاع عن البرنامج المرحلي خلال عامي 73 ـ 74 وشق الطريق أمامه وتعميده بالدم؛ باعتباره برنامجاً كفاحياً، يتطلب تحقيقه نضالات صعبة وشاقة في كافة الميادين العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية، وتقديم التضحيات الغالية في مواجهة العدو وآلة حربه.
كذلك لعبت “القوات المسلحة الثورية” دوراً بارزاً في دعم العمل الفدائي وإسناده ضد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الفلسطينية والقدس وقطاع غزة. في هذا المجال يسجل “لقوات الإسناد” (أحد تشكيلات “القوات المسلحة الثورية”) دورها المميز في التواصل مع مجموعات العمل المسلح داخل الأرض المحتلة ومدها بالسلاح والعتاد والخبرات وكل مستلزمات العمل الفدائي في المناطق المحتلة.
كما شكلت “القوات المسلحة الثورية” الدرع الواقي للمخيمات الفلسطينية ضد الأعمال العدوانية الإسرائيلية والمحلية. ولعبت دوراً مسانداً للقوى الوطنية اللبنانية في معارك الدفاع عن مناطق حضورها إبان حرب السنتين (1975 – 1976). كما خاضت “القوات المسلحة الثورية” قتالاً بطولياً في الدفاع عن المخيمات والتجمعات السكنية الفلسطينية لا سيما في مخيمات تل الزعتر، وجسر الباشا، وضبية، وتجمع برج حمود والنبعة.
وعندما اجتاحت القوات الإسرائيلية الجنوب اللبناني في منتصف آذار (مارس) 1978، لعبت القوات المسلحة الثورية دوراً فعالاً في التصدي للعدوان الإسرائيلي على كل الجبهات. فاستنفرت كل قطعاتها العسكرية، وبإسناد مميز من قوات الميليشيا الشعبية، وخاضت على محاور القتال المختلفة معارك بطولية قدمت فيها خيرة قادتها ومقاتليها شهداء وجرحى، في نموذج مميز، استطاعت من خلاله أن تقدم صورة مشرفة للحالة المعنوية العالية التي تستند إليها القوات المسلحة الثورية، وللجهوزية العسكرية المتقدمة التي تتمتع بها، رغم الفارق الكبير بينها وبين العدو الغازي، إن في العدد أو في العدة.
وعندما حاول العدو أن يستقر على خطوط التماس في جيب صور، وعلى محاور النبطية، انتقلت القوات المسلحة الثورية من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، فشنت العديد من العمليات الفدائية خلف خطوط العدو وعلى جنباته، موقعة في صفوفه الخسائر الفادحة.
وبعد الانسحاب الإسرائيلي إلى خطوط ما يسمى آنذاك بالشريط الحدودي المحتل، تقدمت القوات المسلحة الثورية لتحتل مواقعها المتقدمة على خطوط المواجهة، تنطلق منها في أداء مهماتها القتالية ضد مواقع العدو وعملائه المحليين، وفي التسلل إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتوفير ضرورات الإسناد للخلايا المقاتلة داخل الضفة الفلسطينية وقطاع غزة.
وأخيراً، وليس آخراً، احتلت “القوات المسلحة الثورية” موقعها المتقدم في معارك التصدي للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. فخاضت معارك مشرفة في النبطية وقلعة الشقيف ومنطقتي صور وصيدا ومخيماتها، وعلى محاور الناعمة - الدامور - خلده. كما سطرت ملاحم بطولية في الدفاع عن العاصمة اللبنانية بيروت في مواجهة الحصار الإسرائيلي الذي دام أكثر من تسعين يوماً. وفي الوقت نفسه كانت تشكيلاتها في الجبل والبقاع تشن هجماتها الفدائية ضد مؤخرة العدو وعلى جوانبه، وتوقع في صفوفه إصابات فادحة، في معارك مشاغلته ومحاولة تشتيت قواته لتخفيف الضغط عن مدينة بيروت المحاصرة.
وفي كل معاركها قدمت “القوات المسلحة الثورية” تضحيات كبرى، فاستشهد لها عدد كبير من ضباطها وصف ضباطها ومقاتليها، مازالت أسماؤهم تلمع كالكواكب الساطعة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني.
ما بعد 1982.. مرحلة جديدة
بعد خروج قيادة المقاومة الفلسطينية من بيروت، حافظت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين على تجميع قواتها المسلحة في البقاع اللبناني وفي الجبل، على خطوط التماس مع قوات الاحتلال الإسرائيلي. ووقفت أمام واجبين جديدين إلى جانب واجبها الأساسي في الدفاع عن المناطق اللبنانية المحررة ومقاتلة القوات الإسرائيلية المحتلة للبنان، وهما مواصلة إسناد خلايا العمل المسلح في المناطق الفلسطينية المحتلة، مستفيدة من التطورات المستجدة بعد انتشار قوات الاحتلال في أجزاء واسعة من لبنان. والثاني إسناد المجموعات المسلحة للجبهة الديمقراطية في المناطق اللبنانية المحتلة، والتي انخرطت في القتال ضد العدو الإسرائيلي تحت راية جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. كما التزمت الجبهة، في سياق تحالفها الوثيق مع القوى الوطنية اللبنانية بإسناد جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية عبر مدها باحتياجاتها من سلاح وعتاد وخبرات عسكرية.
في أيلول (سبتمبر) 1983 اندلعت معارك ضمان الحضور الوطني في الجبل اللبناني بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي منه تحت وطأة ضربات المقاومة الوطنية، فانخرطت التشكيلات العسكرية “للقوت المسلحة الثورية” في هذه المعارك، تحت راية القوى الوطنية اللبنانية، وقدمت في هذا السياق عشرات الشهداء تعبيراً منها عن مدى تحملها للمسؤولية الوطنية، وعمق إدراكها لحقيقة الأوضاع السياسية المستجدة وضرورات صون التحالف التاريخي اللبناني - الفلسطيني وشروطه.
كذلك أكدت “القوات المسلحة الثورية” للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين واجبها الوطني في انتفاضة بيروت في 6/2/1984 تحت راية تحالف القوى الوطنية اللبنانية، فوقفت إلى جانب هذا التحالف بكل طاقاتها على خطوط التماس دفاعاً عن بيروت الوطنية وجبل لبنان.
عند انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من منطقة صيدا، في جنوب لبنان في مطلع شباط (فبراير) 1985 عادت تشكيلات “القوات المسلحة الثورية” إلى مخيمي عين الحلوة والمية ومية، وأدت واجبها في الدفاع عن المخيمين وعن مدينة صيدا ضد اعتداءات ميليشيات لحد، والتشكيلات الأخرى التي تمركزت شرقي صيدا. وبعد اندحارها نحو منطقة جزين وجوارها، تقدمت التشكيلات العسكرية “للقوات المسلحة الثورية” لتحتل مواقعها الدفاعية شرقاً، تحت راية “جيش التحرير الشعبي ـ قوات الشهيد معروف سعد” في صيغة جديدة للتحالف الوطني اللبناني ـ الفلسطيني.
وعندما بدأت الاعتداءات على مخيمات الجنوب وبيروت في الربع الثاني من العام نفسه كانت “القوات المسلحة الثورية” وباقي منظمات الجبهة الديمقراطية في مقدمة القوى الفلسطينية التي قاتلت دفاعاً عن المخيمات وصوناً لها وإحباطاً لمحاولات اجتياحها وتهجير سكانها شمالاً. وقد تولت قوات الجبهة الدفاع عن المحاور القتالية الأكثر صعوبة، والتي شهدت قتالاً شرساً أبدع فيه المقاتلون الفلسطينيون وأبلوا بلاء حسناً، شهدت له المخيمات آنذاك وثمنته عالياً.
إسناد الانتفاضة.. مهمة رئيسية
اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى في كانون الأول (ديسمبر) 1987 شكل منعطفاً تاريخياً في حياة الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي القلب منها “القوات المسلحة الثورية”. فقد فرضت الانتفاضة على الأطراف الإقليمية إعادة النظر في علاقاتها مع الحالة الفلسطينية. ومن نتائج ذلك فك الحصار عن مخيمات الجنوب وبيروت في لبنان، الأمر الذي أفسح في المجال للتشكيلات العسكرية للجبهة الديمقراطية التفرغ، مرة أخرى، لواجبها النضالي الرئيسي، ممثلاً في إسناد الانتفاضة في الأرض المحتلة، عبر إعادة فتح جبهة القتال واستنزاف العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان. لقد أضحى إسناد الانتفاضة في المناطق الفلسطينية المحتلة الواجب شبه الوحيد “للقوات المسلحة الثورية” إلى جانب التصدي للأعمال العدوانية الإسرائيلية ضد المخيمات والتجمعات السكنية الفلسطينية. وباعتراف العدو نفسه، تحولت الحدود الجنوبية للبنان إلى جبهة قتال رئيسية، أرغم من خلالها جيش الاحتلال على حشد أعداد كبيرة من قواته بتشكيلاتها المختلفة، الأمر الذي وضعه بين جبهتي استنزاف كبيرتين: جبهة الانتفاضة في الداخل، من جهة، وجبهة العمل الفدائي على الحدود، من جهة أخرى.
قوات النجم الأحمر.. شكل آخر للقتال
وفي سياق التطور الطبيعي لأعمال الانتفاضة ومزاوجتها بين الأعمال الجماهيرية المنظمة، وبين العمل المسلح ضد قوات الاحتلال والمستوطنين، أدخلت الجبهة الديمقراطية على خلاياها السرية للعمل المسلح في الداخل تطويرات مهمة وتمّ الإعلان عن عملياتها تحت اسم “قوات النجم الأحمر”. وقد نجحت هذه “القوات” في إلحاق الخسائر الفادحة في صفوف الإسرائيليين، عسكريين ومستوطنين.
بناء “قوات النجم الأحمر” وضع على عاتق “القوات المسلحة الثورية” واجباً جديداً هو دعم هذا التشكيل الفدائي السري في المناطق المحتلة، بالسلاح والعتاد والكوادر المجربة، عبر أساليب مختلفة من بينها تنظيم دوريات من مقاتلين ذوي خبرة، قاموا بجهود بطولية، اخترقوا من خلالها إجراءات العدو على الحدود، واستطاعوا التوغل في قلب المناطق الفلسطينية للتواصل مع مجموعات “النجم الأحمر”. ولعل من أبرز عمليات “النجم” في الضفة الفلسطينية النجاح في تنفيذ حكم الإعدام بالحاخام حاييم دروكمان أحد كبار مؤسسي عصابة “غوش ايمونيم” الاستيطانية، وشريكه افرام أيوني أحد كبار مؤسسي مستوطنة كفار داروم في قطاع غزة، وقد كان من العناصر الأكثر تطرفاً، والداعية إلى استئناف سياسة التطهير العنصري عبر الطرد الجماعي (الترانسفير) للفلسطينيين من داخل إسرائيل والمناطق المحتلة، بزعم أنها تشكل “أرض بني إسرائيل” و”دولة إسرائيل الكبرى”.
أوسلو.. تراجع العمل المسلح
اتفاق أوسلو في 13/9/1993 أدخل القضية الفلسطينية في مرحلة سياسية جديدة، فرضت على الشعب الفلسطيني وقف انتفاضته. كما حدثت تحولات في الوضع الإقليمي، من نتائجها إغلاق جبهة الجنوب اللبناني في وجه العمل الفدائي الفلسطيني. ويمكن القول إن مرحلة ما بعد أوسلو شهدت تراجعاً في وتيرة العمل المسلح الفلسطيني. فتوقفت العمليات القتالية ضد قوات الاحتلال في مناطق الضفة والقطاع، وتمحورت المهام الرئيسية لقوات المقاومة في لبنان، في صون أمن المخيمات والدفاع عنها ضد أي عدوان إسرائيلي محتمل. وما زالت حتى اليوم تقوم بأعباء هذه المهمة.
الانتفاضة الثانية.. ولادة “كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية”
ومع وصول مفاوضات كامب ديفيد 2 ( تموز /يوليو 2000) إلى الطريق المسدود، انفجرت في 28/9/2000 الانتفاضة الفلسطينية الثانية، “انتفاضة الاستقلال”.
ومنذ الأيام الأولى لانطلاقتها، وفرت الظروف الإمكانات الضرورية أمام الانتفاضة لاعتماد كل أساليب الكفاح ضد الاحتلال، بما في ذلك العمل المسلح، في إطار الرد المشروع على الاعتداءات العسكرية الواسعة التي شنها الجيش الإسرائيلي ضد المقرات الرسمية للسلطة الفلسطينية، وضد التجمعات السكنية، والتظاهرات السلمية في الضفة والقطاع.
الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين انخرطت بكل منظماتها الجماهيرية، وبكل طاقاتها في الانتفاضة، وفي ميدان العمل المسلح. فأعادت بناء تشكيلاتها العسكرية في الضفة والقطاع، وقد حملت هذه المرة اسماً جديداً هو “كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية”. وقد خاضت الجبهة الديمقراطية التجربة الجديدة آخذة بعين الاعتبار الظروف السياسية والمعادلات الإقليمية والدولية المستجدة.
التجربة العسكرية الجديدة “لكتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية” استندت إلى الرؤية السياسية للجبهة الديمقراطية للأوضاع المستجدة في الحالة الفلسطينية بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد 2، وإلى تداعيات هذا الفشل على الصعد المختلفة.
لقد رأت الجبهة أن الانتفاضة جاءت رداً على وصول مسيرة أوسلو إلى طريقها المسدود. وقد تطلب الأمر حوالي 7 سنوات من المفاوضات العقيمة كي تتلمس الحالة الشعبية الفلسطينية وكي تترسخ قناعتها بعجز مسيرة أوسلو عن تحقيق الأهداف الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، ولتنضج الظروف الذاتية، وتتقاطع مع نضج الظروف الموضوعية لسلوك نهج سياسي كفاحي جديد يتمثل بالانتفاضة الشعبية والمقاومة المسلحة.
ومنذ البداية، رأت الجبهة أن ثمة أكثر من نظرة للانتفاضة، كل منها تعبر عن رؤية سياسية متكاملة:
* الأولى: ويمثلها الفريق الفلسطيني المفاوض. وقد رأى فيها ورقة تكتيكية يمكن استغلالها سريعاً لتحسين موقعه التفاوضي دون الإخلال بالقواعد الأساسية للعملية التفاوضية المنبثقة عن مسيرة أوسلو. لذلك سارع هذا الفريق، بعد أسابيع قليلة على اندلاع الانتفاضة إلى الدعوة لوقفها والعودة إلى التهدئة والهدوء وإفساح المجال مرة أخرى أمام العملية التفاوضية لتستأنف مسارها على ذات القواعد والأسس التي انطلقت منها في كامب ديفيد 2.
ولم يقف الطرف الفلسطيني المفاوض عند حدود الدعوة اللفظية، بل استأنف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي في طابا المصرية، معتمداً اقتراحات الرئيس الأميركي (آنذاك) كلينتون كمشروع للتسوية. ضغط الانتفاضة من جهة، وسقوط حكومة باراك من جهة ثانية، ومجيء حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف برئاسة شارون من جهة ثالثة، بكل ما عناه هذا التغيير في الوضع السياسي الإسرائيلي.. كل هذا وضع النهاية للعملية التفاوضية، دون أن يتخلى الطرف الفلسطيني المفاوض عن استعداده للدخول في مفاوضات جديدة مع حكومة شارون. الفريق الفلسطيني المفاوض، وإن لم ينجح في وقف الانتفاضة إلا أنه بقي على الدوام يشد بها إلى الخلف، معطلاً كل الدعوات لتطويرها، وتوفير بناها وهياكلها الشعبية لتعزيز صمودها في وجه العدوان الإسرائيلي، ولتشق طريقها نحو تحقيق أهدافها.
* الثانية: مثلها التيّار الديني في الحالة الفلسطينية الذي تجاوز دور العمل المسلح ضد الاحتلال باعتباره رافداً رئيسياً من روافد الانتفاضة الشعبية، لا يتقدم عليها وليس بديلاً عنها. فانطلق من رؤية سياسية تعتبر المقاومة، والحال هذه، السبيل الوحيد لتحقيق الأهداف الوطنية. فسقطت من حسابات هذا التيار حسابات العمل الشعبي في مقاومة الاحتلال والاستيطان، ورأى أن انتصار المقاومة المسلحة على العدو كفيل بحسم المعركة دفعة واحدة واستعادة كل الحقوق الفلسطينية، وقد غالى هذا التيار في شعاراته داعياً إلى تجاوز البرنامج المرحلي للحركة الوطنية الفلسطينية لصالح برنامج شعاراتي يدعو لخوض المعركة ضد الكيان الصهيوني، متجاهلاً موازين القوى والأوضاع الإقليمية وطبيعة العلاقات الدولية. وعلى قاعدة هذه الرؤية اعتمدت القوى المنتمية إلى هذا التيار “العمليات الاستشهادية” خلف “الخط الأخضر” تحت شعار أن إسرائيل مجتمع عسكري، بلا مدنيين.
وقد تباينت المواقف من هذه العمليات، فأدانها المجتمع الدولي، وأدانتها السلطة الفلسطينية باعتبارها إرهاباً، بينما اعتبرها أصحابها أعمالاً استشهادية تأتي في سياق الرد على الدبابة والطائرة الحربية الإسرائيلية، في محاولة من أصحابها لأحداث ما يسمى “توازن الرعب” والدخول مع العمليات العدوانية الإسرائيلية في تنافس هدفه إحداث توازن في ما يسمى أيضاً “ميزان الدم”.
* الثالثة: مثله صف عريض من القوى الوطنية والديمقراطية، عبرت عنه الجبهة الديمقراطية بالخطاب السياسي الأكثر وضوحاً. إذ رأت أن الانتفاضة الجديدة تشكل فرصة جديدة أمام الحركة الوطنية الفلسطينية لإعادة صياغة المعادلة السياسية بما يعيد الاعتبار للبرنامج الوطني لمنظمة التحرير، الذي تمّ التخلي عنه لصالح مسيرة أوسلو. ورأت الجبهة أن أهداف هذا البرنامج باتت ممكنة التحقيق، في ظل شبه إجماع دولي على حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة. واعتبرت الجبهة، مجدداً، أن المرجعية الصالحة لأية عملية سياسية، لتحقيق الأهداف الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني هي قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة. وأكدت الجبهة أن الوصول إلى هذه الأهداف يتطلب سياسة جديدة تقوم على مبدأ : “العملية السياسية بيد، والانتفاضة، والمقاومة باليد الأخرى”. ورأت في السياق أن مثل هذا الأمر يتطلب وحدة القوى السياسية الفلسطينية، الأمر الذي يفترض تشكيل قيادة وطنية موحدة، تتفق على البرنامج الوطني الموحد، وعلى آليات المشاركة الجماعية في اتخاذ القرار والالتزام به. كما دعت كذلك إلى إحداث إصلاحات واسعة في مؤسسات السلطة الفلسطينية و م. ت. ف.، وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية، كي تتحمل أعباء المرحلة القادمة، وتوفر للشعب الفلسطيني مقومات الصمود، حتى يتحقق الاستقلال والسيادة، وضمان حق اللاجئين في العودة. ووفقاً لهذه الرؤية دعت الجبهة إلى تأطير الانتفاضة في هياكل ومؤسسات شعبية، تقف إلى جانب المؤسسات الرسمية في بناء وتطبيق خطط الصمود والتصدي للاحتلال، كما دعت إلى صيغة وطنية تضم الأطراف المنخرطة في المقاومة لوضع تكتيكات العمل المسلح، وترشيده، وتحديد ساحته في المناطق المحتلة عام 67، وإعادة تقديمه باعتباره حقاً مشروعاً للشعب الفلسطيني لتحرير أرضه، وتخليصه مما علق به من تهم الإرهاب.
كما دعت الجبهة في السياق نفسه إلى تحييد المدنيين على جانبي خط الصراع، مستلهمة بذلك تفاهمات نيسان (إبريل) 1996 بين المقاومة في لبنان وبين الاحتلال الإسرائيلي وقبلها تجربة وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل في جنوب لبنان برعاية الأمم المتحدة إثر “حرب الجسور” في تموز (يوليو) 1981.
وقد جاءت في وقت لاحق أحداث 11/9 في الولايات المتحدة، من موقعها السلبي وما نتج عنها من تداعيات في العلاقات والقيم والمفاهيم الدولية، لتظهر بعد النظر الذي تحلت به مواقف الجبهة الديمقراطية حين دعت إلى اعتماد الشرعية الدولية مرجعية لأية عملية سياسية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وغطاء للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال. ودعت الجبهة الأطراف الفلسطينية إلى قراءة أحداث 11/9 وتداعياتها برؤية جديدة، تعفي الحالة الفلسطينية من أية انزلاقات، وترفع عنها أية تهمة بالانتماء للإرهاب، وتقطع الطريق على محاولات شارون الادعاء بانتمائه إلى الجبهة العالمية المكافحة للإرهاب، التي دعت الولايات المتحدة لبنائها، وادعاؤه بالمقابل أن المقاومة الفلسطينية ـ بكل أشكالها المسلحة والشعبية ـ هي في حقيقتها إرهاب وتحريض على ممارسته.
وفي هذا السياق اتخذت الجبهة الديمقراطية من عدد من الشعارات (بما هي تكثيف لخطاب سياسي معين) موقفاً نقدياً صارماً، دعت إلى إعادة صياغتها بلغة جديدة، حتى لا توفر ذرائع إضافية للجانب الإسرائيلي، فيها من السلبيات أكثر مما فيها من الإيجابيات، منها:
الأهداف السياسية للانتفاضة والمقاومة
رأت الجبهة ضرورة تسليح الانتفاضة والمقاومة بأهداف واضحة وملموسة يفترض بها أن تعمل لتحقيقها. فالانتفاضة والمقاومة ليستا هدفاً بحد ذاته بل كناية عن أشكال ووسائل نضالية في إطار إستراتيجية محددة لتحقيق أهداف سياسية. ورأت الجبهة أن الاستقلال والسيادة، والخلاص من الاحتلال والاستيطان، وضمان حق اللاجئين في العودة، هي الأهداف الواقعية المفترض أن تحققها الانتفاضة، خاصة في ظل ما يشبه الإجماع الدولي على مشروعية هذه الأهداف والحقوق. بالمقابل رأت أن رفض تحديد الأهداف الواضحة، بذريعة عدم التخلي عن الأراضي المغتصبة عام 48، لا يشكل خطوة إلى الأمام. ففضلاً عن أنه يحمّل الانتفاضة أكثر مما يمكنها أن تتحمله، فإنه يسهم في إضعاف جبهة التأييد العربي والدولي للانتفاضة، إلى جانب أنه يوفر للفريق المفاوض فرصته لعدم التقيّد بأية أهداف أو اشتراطات وطنية. ورغم الجدل الواسع الذي شهدته الحالة الفلسطينية في هذا السياق، خاصة في جولات الحوار في غزة ورام الله والقاهرة، غير أن الواضح أن وجهة نظر الجبهة شقت طريقها حين بدأ الجميع يسلم بالبرنامج الوطني (الدولة المستقلة ذات السيادة وضمان حق العودة) على أنه الهدف الواقعي للانتفاضة، وإن جاء التسليم بأساليب مختلفة من بينها الحديث عن هدنة طويلة مع العدو مقابل انسحابه من الضفة والقطاع والقدس وقيام الدولة المستقلة كاملة السيادة.
توازن الرعب.. وميزان الدم
انتقدت الجبهة انتقاداً لاذعاً هذين الشعارين انطلاقاً من أنه من الخطأ الانزلاق إلى ذات المواقف والمنطلقات المعتمدة من قبل الجانب الإسرائيلي، لأن الكفة ستكون بالضرورة راجحة لصالحه، نظراً لاختلال موازين القوى. فضلاً عن ذلك فإنه من الخطأ المقارنة بين الدبابة والطائرة الحربية، أداة العدوان، وبين المناضلين الفلسطينيين المكافحين لأجل حريتهم واستقلالهم. عدا أن هذين الشعارين يفرغان الصراع من مضمونه السياسي، على أنه بين طرف قائم بالاحتلال وطرف آخر تحت الاحتلال، وإعادة تقديمه على أنه مجرد صراع عسكري يحاول فيه كل من الطرفين أن يلحق الخسارة بالطرف الآخر. لا شك في أن مثل هذه الشعارات دغدغت عواطف شريحة من الفلسطينيين، لكنها سقطت في نهاية المطاف في امتحان التجربة، وانسحبت من ساحة التداول السياسي.
خلاصة القول إن الجبهة الديمقراطية امتلكت في النظر إلى الانتفاضة والمقاومة استراتيجية سياسية، شكلت أساساً لخطابها السياسي، آخذة بالاعتبار المستجدات اليومية، بكل ما يمليه ذلك من تطوير في التكتيكات، مع الاحتفاظ بالمنحى العام لخطابها السياسي، واستراتيجيتها المعروفة، والتي شقت طريقها، لتصبح إلى حد كبير معتمدة لَدُن الحركة الوطنية الفلسطينية.
إلى جانب ذلك صاغت الجبهة لنفسها خط عمل عسكري خاص بها، انسجاماً مع استراتيجيتها السياسية، وفي خدمة أهداف المرحلة. وبناء عليه بنت الجبهة خط العمل العسكري لجناحها المقاتل “كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية” وفقاً للتالي:
* المقاومة المسلحة ليست هدفاً بحد ذاته. بل هي وسيلة من وسائل الكفاح ضد الاحتلال، وهي حق من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني للدفاع عن نفسه، وتحرير أرضه، وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة.
* اعتماد أسلوب المقاومة المسلحة رهن بالظروف السياسية. وبالتالي يمكن تعليق العمل بالمقاومة المسلحة لفترة زمنية ما، استجابة لضرورات سياسية دون أن يعني ذلك التخلي عن الحق الثابت للشعب الفلسطيني في استئناف هذا الأسلوب، إذا ما استجدت ظروف سياسية تستدعي مثل هذا الأسلوب.
* سقف العمل العسكري يحده القرار السياسي، وبالتالي فإن أهداف العمل المسلح السياسية يرسمها القرار السياسي. وإن حدود العمل المسلح هي حدود القرار السياسي نفسه. وبناء عليه، واستناداً إلى البرنامج السياسي الوطني، “الدولة المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس بحدود الرابع من حزيران (يونيو) 67، وضمان حق اللاجئين في العودة”، رسمت الجبهة حدود عمليات “كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية” بحدود الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، مستهدفة بذلك الاحتلال الإسرائيلي بمظهريه العسكري ممثلاً في قوات الاحتلال، والاستيطاني ممثلاً بمغتصبي الأرض في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة والقدس الشرقية. ورغم انزلاق بعض الأذرع العسكرية لفصائل م. ت. ف. نحو “العمليات الاستشهادية” خلف “الخط الأخضر” في منافسة غير مبررة مع عمليات التيار الديني، حرصت الجبهة على صون خطها السياسي واستراتيجيتها العسكرية، وبقيت عملياتها القتالية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67.
* خطّأت الجبهة الديمقراطية التمييز المتعمد بين “العمليات الاستشهادية”، و”العمليات الفدائية”، ورأت فيه تمييزاً ذا خلفية سياسية إيديولوجية معينة، يهدف إلى حصر “الشهادة” بتلك العمليات التفجيرية التي تستهدف التجمعات الإسرائيلية دون تمييز، ونجحت بالممارسة وطول التجربة وبالتضحيات الغالية في التأكيد أن كل أعمال المقاومة المسلحة هي عمليات استشهادية، أو هي مشاريع تنطوي بهذه الدرجة أو تلك على احتمال الاستشهاد.
* بعد أحداث 11/9 في الولايات المتحدة، أخذت استراتيجية الجبهة العسكرية بعداً جديداً، حين وفرت للمقاومة الفلسطينية سياقاً سياسياً وقانونياً يحميها من كل تهم ممارسة الإرهاب. فهي مقاومة مشروعة تتم فوق الأرض المعترف بها دولياً إنها محتلة. وهي تتم ضد جنود عسكريين ومستوطنين مسلحين يقومون بدور المحتل ويصادرون الأرض، وينتهكون بممارساتهم مبادئ القانون الدولي ويتجاهلون قرارات الأمم المتحدة. ولا شك في أن القرار الاستشاري لمحكمة لاهاي بشأن جدار الفصل والضم العنصري في الضفة الفلسطينية، جدد بُعد القانون الدولي المشروع للمقاومة الفلسطينية، وفقاً لاستراتيجية الجبهة، حين جدد القرار الدولي التأكيد على حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال تحت سقف قرارات الشرعية الدولية التي اعترفت له بحقه في الحرية والاستقلال والسيادة على أرضه.
وفقاً لهذه الرؤية بدأت “كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية” شق طريقها العسكري، عبر عمليات قتالية تستهدف الاحتلال بوجهيه العسكري والاستيطاني، بحيث يتحول القتال إلى حرب استنزاف يومية ضد العدو الإسرائيلي.
وقد اعتمدت “كتائب المقاومة” كل أشكال القتال الممكنة. فنفذت عمليات اقتحام للمستوطنات تجاوزت خلالها الحواجز والعوائق الإلكترونية ونقاط الإنذار والخنادق والجدران الشائكة، وتمكنت من الوصول إلى قلب مواقع العدو، لتقاتل جنوده في خنادقهم وجهاً لوجه، مقدمة في ذلك تجربة فريدة ورائدة أحدثت زلزالاً في صفوف كبار ضباط العدو وهيئة أركانه. وقد اعترفت قيادة العدو أن مثل هذا العمليات ستقود إلى زعزعة ثقة الجندي الإسرائيلي بنفسه وبإجراءاته الدفاعية، وسوف تقنعه بأن ما من إجراءات حماية بإمكانها أن تحول دون مقاتلي المقاومة الفلسطينية ودونه. ولقد شكلت عملية “حصن مرغنيت” الشهيرة معلماً بارزاً في تاريخ “كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية”، اهتزت لها أركان الجيش الإسرائيلي، وأحدثت جدلاً عاصفاً في صفوف العدو على المستوى السياسي والعسكري، وعلى مستوى الرأي العام. وقد تخوفت القيادات الإسرائيلية من أن تؤدي زعزعة الثقة بقدرة الجندي الإسرائيلي على مواجهة المقاتل الفلسطيني إلى إحداث هجرة معاكسة من المستوطنات، يكون من نتائجها إفراغ المستوطنات من سكانها، بعدما تحولت إلى أماكن لا يعجز المقاتلون الفلسطينيون عن دخولها.
إن تداعيات عملية “حصن مرغنيت” (كمثال نموذجي لخط العمل العسكري لكتائب المقاومة الفلسطينية) لم تقف عند حدودها الإسرائيلية بل امتدت بصداها عربياً ودولياً. وقد لقيت العملية إشادة من قبل الرأي العام العربي ورأت فيها نموذجاً للعمل الفلسطيني المقاوم، الذي يضفي المزيد من الشرعية على حق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه بكل السبل والوسائل الممكنة. كما رأت فيها عملاً شجاعاً يجرد الجانب الإسرائيلي من كل الذرائع لاتهام الشعب الفلسطيني وانتفاضته ومقاومته بالإرهاب. كذلك لقيت هذه العملية، كنموذج، ارتياحاً لدى الرأي العام الأوروبي والغربي عموماً لأنها وضعت القتال في إطاره السليم: مسلح مقابل مسلح، مستبعدة المدنيين والعزل من السلاح. ورأت الدوائر الغربية في عملية “حصن مرغنيت”، كنموذج متقدم للعمل المقاوم الفلسطيني، خطوة مهمة على طريق إعادة تصويب أعمال المقاومة بالاتجاه الصحيح، وشق طريق بديل للعمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية.
كذلك اعتمدت كتائب المقاومة الوطنية أسلوب الكمائن العسكرية ضد دوريات العدو، وقوافل المستوطنين على الطرقات؛ استعملت في تنفيذها العبوات الناسفة، والقنابل اليدوية والأسلحة الرشاشة. وقد حققت هذه العمليات الهدف منها، حين حولت الطرقات المؤدية إلى المواقع العسكرية الإسرائيلية والمستوطنات اليهودية، في قطاع غزة والضفة الفلسطينية إلى مصائد، بحيث بات السير أو السفر عليها مغامرة غير محسوبة النتائج. مثل هذا الأمر أرغم العدو الإسرائيلي على إعادة النظر بأسلوب تسيير دورياته، من حيث العدد والتسليح، كما أرغمه على توفير الحراسات المشددة للمستوطنين، وإعادة تنظيم حركتهم في قوافل جماعية تواكبها الدوريات والسيارات العسكرية والمروحيات الحربية. لقد نجحت مثل هذه العمليات في إرغام العدو الإسرائيلي على الزج بالمزيد من التشكيلات العسكرية في معاركه ضد الانتفاضة والمقاومة، وهو اعتراف باتساع جبهة القتال في المناطق الفلسطينية المحتلة، بكل ما في هذا الاتساع من تكاليف باهظة في الخسائر البشرية، والموازنات المرصودة للجيش والأجهزة الأمنية في إسرائيل. كما نجحت هذه العمليات في تحويل انتقال المستوطنين على الطرق العامة إلى كابوس دائم.
إن الطرق إلى تجمع مستوطنات غوش قطيف في قطاع غزة، وعمانويل وايتامار ويتسهار وغيرها في الضفة الفلسطينية تشهد لمقاتلي “كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية” ولبسالتهم وشجاعتهم في تصديهم لدوريات الاحتلال وقوافل المستوطنين بالنار والبارود. بل إن معركة معبر صوفا في 29/5/2003، في قطاع غزة تشهد لأحد أبطال “كتائب المقاومة الوطنية” الرفيق المقاتل أحمد خالد يوسف جاد الحق كيف طور أساليب القتال ضد دوريات العدو، فلم يكتفِ بالاشتباك معها، بل تقدم نحو إحداها، ليفجر نفسه بجنود الاحتلال بعملية استشهادية من طراز جديد، حملت في طياتها رسالة سياسية ذات معاني غنية بضرورة ترشيد العمل المسلح وإعادة تصويبه بالاتجاه السليم، لتثمير نتائجه الإيجابية لصالح الانتفاضة والمسيرة الكفاحية للحركة الوطنية.
* كذلك اعتمدت “كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية” أسلوب القنص بحيث يتسلل مقاتلوها إلى مواقع قريبة من مواقع العدو، وينتظرون اللحظة المناسبة لاصطياد أحد أفراد العدو. وواضح أن مثل هذا العمل يتطلب قدرة عالية على التصويب، وشجاعة للتقدم نحو مواقع الأعداء، وقدرة مميزة على ضبط الأعصاب، وخبرة مميزة تمكن المقاتل من اتخاذ القرار بإطلاق النار في اللحظة التي يراها مناسبة، ولياقة بدنية تتيح للمقاتل الانسحاب السريع بعيداً عن نيران العدو، وخارج محاولاته فرض الطوق العسكري على المكان، ومعرفة أساليب التمويه، كي يبقى المقاتل بعيداً عن أعين جنود العدو ومناظيرهم العسكرية. ولعلّ عملية خانيونس كانت واحدة من تلك العمليات الناجحة التي نفذت في هذا السياق.
* ومن الأساليب الأخرى التي اعتمدتها “كتائب المقاومة الوطنية” قصف المستوطنات بالهاونات والصواريخ. ومن الطبيعي القول إن مثل هذا العمل يتطلب القدرة على توفير الذخائر الضرورية، وهذه مسألة غاية في التعقيد استطاعت “كتائب المقاومة الوطنية” أن تجد لها حلاً عملياً، مكنها من إدامة عمليات القصف خلال العام 2004. كما أن مثل هذا العمل يتطلب رجالاً مختصين يجيدون استعمال المدافع، وتتوفر لديهم القدرة على التعامل التكتيكي معها في أجواء يسودها التوتر، الأمر الذي أكد، كخلاصة، أن أبطال المدفعية في “كتائب المقاومة الوطنية” تحلوا بالشجاعة والأعصاب المتماسكة، وحققوا أهدافهم، حين فرضوا على المستوطنين وعلى جنود العدو أن يعيشوا في أجواء استنزاف بشري ومعنوي، وفي حالة من التوتر الدائم.
* كما يُسجل “لكتائب المقاومة الوطنية” أن مقاتليها كانوا في مقدمة الصفوف في الدفاع عن المناطق السكنية في قطاع غزة ضد عمليات الاجتياح الإسرائيلية. لقد سطر مقاتلو “كتائب المقاومة الوطنية” صفحات من البطولة في معارك الدفاع عن جباليا حيث تمكنوا من تدمير دبابات العدو وآلياته. وفي معارك الدفاع عن رفح وحي الزيتون، حين نجحوا في قتل أفراد العدو رغم تحصنهم داخل آلياتهم المصفحة.
* لقد شن العدو الإسرائيلي سلسلة هجمات ضد كوادر الجبهة وقياداتها، ولعلّ جريمة الاغتيال الأولى التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، بعد اندلاع الانتفاضة هي التي استهدفت أحد مناضلي الجبهة وكتائبها الوطنية الرفيق فراس ديب سباعنة أبو حطب الذي اقتحمت قوات الاحتلال منزله في مخيم جنين وأطلقت عليه النار بدم بارد، وأصابت شقيقه بجراح بليغة. كذلك ارتكبت قوات الاحتلال عدة جرائم قتل استهدفت مناضلي “كتائب المقاومة الوطنية” من بينها جريمة الاغتيال التي وقعت في 4/2/2002 واستهدفت خمسة مناضلين على رأسهم الرفيق أيمن البهداري قائد “كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية” في جنوب القطاع.
* وسوف يبقى قطاع غزة يسجل بفخر كيف أن أبناء عبسان الكبيرة، على رأسهم الشهيد عبد الغني أبو دقة والشهيدة مفيدة أبو دقة المناضلين في صفوف الجبهة الديمقراطية، تصدوا لقوات الاحتلال وهي تحاول عاجزة عن أسر عصام أبو دقة، عضو اللجنة المركزية للجبهة، المتهم من قبل قوات الاحتلال بأنه العقل المدبر للعمليات البطولية “لكتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية”.
* كما شنت قوات الاحتلال حملة اعتقالات طالت قيادات الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وفي المقدمة إبراهيم أبو حجلة عضو اللجنة المركزية للجبهة الذي مازال حتى الآن أسيراً في سجون الاحتلال. كما فشلت في اغتيال قيس عبد الكريم عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية في عملية استغرق التحضير لها طويلاً أطلق عليها العدو اسم “الثلج الأبيض”، لكن الإجراءات المتخذة من قبل الرفيق المعني ومساعديه أفشلت العملية الإجرامية، وأبرزت كيف أنه يمكن بشيء من الحذر والإجراءات الاحتياطية، إحباط عمليات العدو الإجرامية وإفشالها.
إن من حق “كتائب المقاومة الوطنية” أن تفخر أنها ساهمت مساهمة فعالة في إذكاء نار الانتفاضة والمقاومة، وألحقت بالعدو خسائر جسيمة، وقدمت بالمقابل تضحيات لا تقدر بثمن من دماء مناضليها وأرواحهم، بل وأيضاً شقت للمقاومة طريقاً، تفردت به في المراحل الأولى من عمر الانتفاضة، تعبيراً منها عن رؤيتها السياسية الواقعية.
كما من حق “كتائب المقاومة الوطنية” أن تفخر أن خطها العسكري هو الذي ساد في الحالة الفلسطينية، بعد أن توافقت الفصائل على مبدأ “تحييد المدنيين”، في تراجع واضح عن العديد من الشعارات والمواقف والسياسات المغامرة، لصالح سياسة ثورية واقعية.
ومن حق كل الأذرع العسكرية للفصائل الفلسطينية وكافة المناضلين في الحركة الوطنية الفلسطينية أن يفخروا أيضاً بأنه لولا المقاومة الشرسة التي أبداها الشعب الفلسطيني ولولا صموده الأسطوري في مواجهة الاحتلال، لما توصلت قيادة العدو الإسرائيلي إلى القناعة باستحالة القضاء على الانتفاضة وعلى المقاومة بالأساليب العسكرية، وأن السبيل الوحيد للخروج من مأزق الصراع التاريخي مع الفلسطينيين هو في الاستجابة لحقوقهم الوطنية في إطار الحل السياسي المتوازن.
لقد اتخذت حكومة شارون قرارها “التاريخي” بالانسحاب من قطاع غزة، تحت وطأة ضربات المقاومة الفلسطينية في أرجاء القطاع، ضد قوات الاحتلال وضد المستوطنين. ولا يقلل من أهمية هذا الأمر أن يدرج شارون مسالة الانسحاب في خطة إسرائيلية تهدف إلى إغلاق الطريق أمام قيام دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة. ذلك أن الانسحاب الإسرائيلي من القطاع ـ والذي هو ثمرة من ثمار الانتفاضة والمقاومة، أياً كان السياق السياسي الذي يندرج في إطاره، هو محطة من محطات النضال الفلسطيني على طريق مراكمة الانتصارات والمكاسب، وتحقيق خطوات جديدة تقرب الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية من إنجاز الأهداف الوطنية اللاحقة.
وإذا كانت السلطة الفلسطينية، قد توصلت مع حكومة إسرائيل، في سياق تفاهمات شرم الشيخ، على وقف إطلاق النار ـ كي يتسنى لشارون الإدعاء أنه لم يخرج من القطاع، تحت وطأة ضربات المقاومة، كما خرج سلفه إيهود باراك من جنوب لبنان ـ فإن هذه التفاهمات هي الأخرى، لن تقلل على الإطلاق من أهمية الانتصار الفلسطيني الذي حققته الانتفاضة والمقاومة. بل، وعلى العكس من هذا، يمكن القول، إن قبول شارون بتفاهمات شرم الشيخ ـ بشأن قطاع غزة ـ هو دليل ساطع على الموقع المؤثر الذي تحتله المقاومة في العملية السياسية وفي الإطار العام للصراع مع المحتل الإسرائيلي. هذا كله يشكل رداً شافياً على مجمل المقولات الداعية إلى وقف المقاومة، ويؤكد من جديد، أهمية تجميع أوراق القوة بيد الحالة الفلسطينية، في مفاوضاتها مع الجانب الإسرائيلي، في مقدمة هذه الأوراق ـ إلى جانب ورقة الوحدة الوطنية ـ تقف ورقة المقاومة المسلحة. في هذا السياق، من المفيد أن نلاحظ كيف أن هذه المقاومة، ورغم وقف إطلاق النار، مازالت تشكل هاجساً لدى الجانب الإسرائيلي، حتى أن مستشار شارون، المحامي دوف فايسغلاس، يحذر أقرانه من احتمال تجدد المقاومة بعد الانسحاب من القطاع؛ حين يعترف أن حكومة شارون غير جادة في الدخول في مفاوضات الحل الدائم، وأنها تنوي تجميد العملية السياسية بعد إنجاز خطة “فك الارتباط” الأمر الذي سيقود ـ برأي فايسغلاس نفسه ـ إلى إعادة التوتر بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، كمقدمة لانفجار الأوضاع مجدداً. وهذا يعني، بلغة أخرى، أن المقاومة المسلحة لم تستنفذ أغراضها، وأن وقف إطلاق النار، الذي توصلت له السلطة الفلسطينية مع حكومة شارون في قمة شرم الشيخ (8/2/2005)، وإن طالت مدته، فإنه سيبقى مؤقتاً، ما دامت حقوق الشعب الفلسطيني لم تجد طريقها إلى الحياة بعد.
تحياتي